لن ننسى ولن نغفر/ توجان فيصل.
مقالات
لن ننسى ولن نغفر/ توجان فيصل.
19 حزيران 2022 , 22:44 م


بقلم/ توجان فيصل:

للسياسة ضروراتها، وللمقاومة الشعبية للاحتلال والعدوان الخارجي إلزامات بأثمان تصل حد عدم التفكير في الألم الإنساني وصولًا لموت المقاوم أو فقده لأبنائه. وهذا ليس عيبًا أو خللًا في إنسانية المقاوم، بل هو قمة التضحية بالذات في سبيل تحرير وطن لتعيش فيه أجيال قادمة بسلام. وكل حروب التحرير، المبجلة عالميًا ومنذ بداية تشكل المجتمعات البشرية فيما أصبح أوطانًا تعز على أبنائها بما لا يقل عن مَعزّة الوالدين والأبناء، تسلم بداهة بضرورة كبت المشاعر الشخصية كي لا تَعُوق الهدف الأسمى المتمثل بالحرية والكرامة الجمعية، التي لا تتحقق إلا في الوطن. ويلخص هذا قول تيسير السبول الشاعر الأصدق في كل ما كتب، في إحدى «خيّامياته»: «فغريب الدار في غربته، إن صحا غنّى وإن غنّى بكى». والمقاومون الوطنيون يؤثرون الموت بكرامة على أرضهم على البكاء في غربة.

هذه مقدمة لزمت كضرورة لإنصاف المقاومة الفلسطينية في مواجهة محاولات دولية لا تكل ولا تمل في سعيها لوسم تلك المقاومة ب «الإرهاب». وهو وسم يستهدف الإسلام أيضًا لكون المقاومة الغزية تقودها «حركة المقاومة الإسلامية». وبعد المقدمة نأتي لدورنا كسياسيين وإعلاميين ونشطاء في مجال حقوق الإنسان، للحديث عن الخرق بل الهدر الصريح الجاري لحقوق الإنسان في غزة بعدوان متكرر بحيث يمكن وصفة بالمستمر، بحيث لم يعد يلقى ما يستحقه من إدانة كونه «محرقة» جارية للشعب الفلسطيني بذريعة محرقة لليهود لم يكن للفلسطينيين يد فيها. بل ولا يقبل أي تدقيق تاريخي وعلمي في صحة ما يسوق من تلك المحرقة منذ أكثر من قرن، لتبرير محرقة للفلسطينيين على أرضهم التاريخية، جارية بكل شواهدها وشهودها العدول.

في العرف العالمي يوجد إجماع على ضرورة عدم إيذاء المدنيين في أي صراع، وبالذات الأطفال والنساء. وما يجري لغزة هو خرق بدرجة استهداف متعمد لهذين القطاعين. والمؤسف أن الحديث عن ضحايا سلاسل العدوان الإسرائيلي على غزة من النساء والأطفال أصبحت مجرد أرقام. ومعروف علميًا أن الأرقام في شأن المعاناة البشرية تفقد الكثير من وزنها بتصاعد الرقم. والسبب الرئيس هو أن التعاطف مع المعاناة الإنسانية يلزمه «إعطاؤها وجهًا إنسانيًا». وحشود الضحايا تغيب عنها الوجوه إذ تتشابه. ولكن إبراز بضعة وجوه متمايزة تخاطب صورًا في وجدان المتلقي، تفيد في إيصال الرسالة. وهذه مهمة تواصلية إعلامية ثبتت جدواها. وفي مثال عالمي أدت صورة طفلة فيتنامية قصفت عائلتها وفرّت وحدها مذعورة باكية وعارية فيما نيران القصف خلفها تحرق منزلها وأهلها، لتعاطف دولي، وشعبي أمريكي، أوقف تلك الحرب الجائرة.

وفي تغطية لصحفية شابة من المنظمة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان، اصطحبت ابنتها ذات السنوات الثلاث في زيارتها لغزة لتوثيق ما يجري فيها، قدمت تلك الشابة صورة حية لمعاناة الأطفال والنساء تلزم بتوقف «الإنسان» الغربي أمامها بغض النظر عن قوميته أو جنسيته أو ديانته. فحين تحدثت عن قصف جرى لأبنية سكنية سردت تلك السيدة ذعرها وهي تعود راكضة لتفقد ابنتها ذات الثلاث سنوات. هنا لم تعد هذه صحفية بل كانت أمًا تفقد فلذة كبدها. ومن تجربتها هذه انطلقت لبيان أعداد الضحايا من الأطفال الغزيين، ليس القتلى فقط بل أيضًا الأحياء الذين يعيشون جحيم الفقد والتشرد بلا مسكن، أو اليتم بفقد أحد الأبوين أو كليهما جراء القصف الإسرائيلي. وبينت أن ستة وستين طفلًا قتلوا في حملة القصف تلك وحدها والتي استمرت أحد عشر يومًا كان بإمكان القوى الكبرى الداعمة لإسرائيل وقفها لو أرادت. وبينت أن اثنين وسبعين ألف طفل غزي شردوا من منازلهم، وأن أربعين ألفًا منهم ما زالوا مشردين بلا سكن..أي إنها حرب تشن بتعمد على شعب أصيل في فلسطين، يستهدف أطفاله ونساءه، ما يؤشر على هدف إبادة.. أي هولوكوست لشعب لم يؤذ اليهود في تاريخه الطويل.

وهذا ما جعل الإنجاب في غزة جزءًا من معركة البقاء لشعب بأسره. ولهذا نسبة الأطفال ما دون سن الخامسة عشرة بين المليوني غزي هي الربع. ولكنها نسبة تؤشر على محاولة علاج ألم فقد طفل بإنجاب غيره، وهذا تعرفه النساء بعامة، ممن فقدن طفلًا لأسباب طبيعة.. ولكن في غزة الفقد بات القاعدة ويصيب غالبية الأمهات ومكررًا، وبقاء الأم حية بعد فقد طفلها يلزمه دافع قوي في مقدمته إنجاب غيره لتشعر ب «العوض».. وإن لم تقدر على الإنجاب يبقيها حية حاجة بقية أطفالها لها. هذا معروف بين النساء بعامة، ولكنه في غزة أصبح بعضًا من علاج مزدوج، علاج لاحق للفقد أو تحوطي من فقدٍ جارٍ على كل أم غزية وكأنه قدر. والأهم أنه علاج ربما غير موصوف من أطباء نفسيين قد يعتبرون ترفًا في حال غزة، ولكنه لازم لمرض شائع أشارت له الصحفية، وهو اضطراب ما بعد الصدمة.. والصدمات تنهال على الغزيين كبارهم في صورة جرائم وحشية تحصد فلذات أكبادهم.. ويصاب بها أطفالهم أيضًا كون ما يجري يفوق قدرة الطفل على التحمّل. وكمثال تحدثت الصحفية عن طفل في الثانية عشرة تطارده صورة أخيه ابن الخامسة عشرة الذي تناثرت أشلاؤه أمامه، في صحوه ومنامه.

كون الشعب الفلسطيني المحشور في قطاع غزة قرر النضال مقدمًا قضية الوطن كأولوية على كل آلامه لا يعني إسقاط حقه الإنساني، بل يعني أن مسؤولية إحقاق هذا الحق تنتقل لإخوة له في الإنسانية.