العودة إلى المربع الأول: تصويت العرب معناه ضبط إيقاعهم والتجديد لشرعية الكيان\ أحمد أشقر
عين علی العدو
العودة إلى المربع الأول: تصويت العرب معناه ضبط إيقاعهم والتجديد لشرعية الكيان\ أحمد أشقر
8 تشرين الثاني 2022 , 15:47 م


تهديد رقم 1- "إذا لم تخرجوا وتصوتوا، [ستقوم حكومة إسرائيل] بأخذ كل ما لديكم"!

(يائير لبيد مهدداً العرب أثناء زيارته للناصرة في 24. 10. 2022).

تهديد رقم 2- "إمّا نُصّوت، وإما نَندم. نُصوّت"!

انتخابات الكنيست 1. 11. 2022

لجنة الإنتخابات المركزية للكنيست

على خلفية انتخابات الكنيست العشرين التي جرت في السابع عشر من آذار 2015 نشرتُ مقالاً بعنوان "الإنتخابات "الإسرائيلية": شرعية الكيان وضبط إيقاع حراك العرب أولاً"، كتبت فيه ما يلي: "أصرّ [بن جوريون] على منحهم [أي عرب 48] حقّ التصويت في العام 1949 لأنه عرف أن تصويتهم سيمنح الشرعية للكيان ولسياسته العدوانية ضدهم". وعن تشكيل القائمة المشتركة أضفت "إن قبول حكومة "إسرائيل" بتشكيل وتواجد "القائمة المشتركة" [سنة 2015] كجسم موحد ناظم لتصويت العرب، بينما رفضت عقد مؤتمر الجماهير العربية سنة 1981 الذي لم يكن جسماً رسمياً، يؤكد رغبتها بوجود القائمة [المشتركة] لتقوم بمنح الشرعية للدولة وضبط إيقاع حراكها في دائرة التصويت فقط، أي تطبيعهم وتدجينهم". أما عن تفكيكها وانهيارها فقد كتبت في مقالي الموسوم (منصور عباس ليس أول الورطات ولا آخرها!، أواخر سنة 2020) ما يلي، إن تفكيكها بات مصلحة تشترك فيها كل من سلطة رام الله، والقوى السياسية الإسرائيلية التي أشارت استطلاعاتها إلى أن تشكيل المشتركة كان أحد أسباب ازدياد نسبة المصوتين اليهود لليمين في خضم الصراع الهُوّياتي (...). أثناء زيارة رئيس الحكومة "الإسرائيلية" (يئير لبيد) صبيحة تنفيذ حكومته مجزرة في نابلس في اليوم الذي زار فيه بلدية الناصرة في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول 2022 توجه إلى مجاميع عرب 48 وبحضور غالبية وجهائهم من رؤساء السلطات المحليّة محذراً: "إذا لم تخرجوا وتصوتوا، [ستقوم حكومة إسرائيل] بأخذ كل ما لديكم"! استعار (لبيد) موقفه من التاريخ الأسود للأنظمة الفاشيّة في العالم، بهذا يكون قد أفصح وعبّر عن سياسة كيانه بما معناه: امنحوا كياننا الشرعية ونحن سنسمح للبنوك والشركات المختلفة إقراضكم المال كي تشتروا سيارات حديثة لكن دون بنية تحية لها.. وبامكانكم أن ترسلوا أبناءكم لدراسة الطب في مولدوفا لتشغلوا مشافينا بعد أن عزف أبناؤنا عن دراسة الطب وتحولوا إلى المعلوماتية والسايبر وتجارة السلاح؛ ومن جهتنا سنواصل تقتيلكم في جنين ونابلس والخليل وجسر الزرقاء.. وكل مكان، ثم تحتفون بنا في الناصرة! يا لها من مفارقة مهينة ومُذلّة سكت عنها وجهاء القوائم العربيّة ونُخبها. هذا تهديد كان يجب على مجاميع عرب 48 أن تأخذه على محمل الجدّ. فعلى هذه الخلفيّة جرت انتخابات الكنيست الخامسة والعشرين في الأول من تشرين الثاني 2022. ولا يهمّ هنا إذا كان هدف الكيان وأعوانه المحليين والدوليين هو تفكيك القوائم الانتخابيّة أو/ وزوالها كلها أو/ بعضها على الأقل ليقبل ما تبقى منها أن يكون شاهد الزور في إئتلاف حكومي في المستقبل، فإنها تندرج في باب تهديدهم الجدّي ليس من أعضاء كنيست شرقيّين (من نسل "البويجيّة" كما وصفهم المهرج (دودو طوباز) سنة 1981)، بل من رئيس حكومي أشكنازي كان والده، (تومي لبيد)، صحفيّا وكاتباً فاشيّا صريحاً، ولا عجب أن يكون (لبيد) الإبن أول من بارك لرئيسة الحكومة الإيطالية الفاشيّة، (جورجيا ميلوني).

بكلمات أخرى كان التهديد: إما أن تمنحوا الشرعية لكياننا أو تصعيد العنف ولربما نكبة جديدة!

* * * * *

في هذا السياق انبرى بعض الكتاب العرب واليهود يحمّلون مجاميع المُصوتين العرب مسؤولية صعود "بن جفير واليمين الفاشي" وكأن غيرهم أمثال (نتنياهو)، و(لبيد)... والجنرال احتياط (يائير جولان) من أتباع الاشتراكية الديموقراطيّة. تقول الغائبة عن الواقع والوعي عضو الكنيست (عنبار بيزك) من جماعة (لبيد) ما يلي: "في هذه الانتخابات يجب على كل المجتمع العربي أن يذهبوا إلى مراكز الاقتراع ويصوتوا… لأنهم إذا لم يصوتوا، فسوف نستيقظ في صباح اليوم التالي للانتخابات ونكتشف أن المجتمع العربي يعيش داخل دولة عنصرية تميز بين الدم اليهودي والدم العربي، بين طفل يهودي وطفل عربي. يجب علينا أن نأخذ المسؤولية ونذهب للتصويت في 1.11.2022 من أجلنا جميعاً، يهوداً وعربًا، كي نعيش معًا، في دوله هادئة، ليبرالية وديمقراطية" (موقع الصنارة 29. 10. 22). يبدو أن هذه المخلوقة تعتقد أن مجاميع عرب 48 ينعمون برغد العيش والرفاه التام، ولا تعلم أن كيانها لا يعتبرهم مواطنين بموجب قانون القومية لسنة 2017. ويصادر ما تبقى من أراضيهم لإعطائه للمستعمرين أمثالها. ليس هذا فقط، بل تحمّل هذه المجاميع البائسة مسؤولية العنصرية وكأن كيانها هو سويسرا قبل استجلاب المهاجرين المسلمين والأفارقة إليها.

يعود الباحث د. أريك رودنيتسكي من جامعة (تل أبيب) إلى تكرار ما قاله (سامي سموحة) في تسعينيات القرن الماضي بأن العرب هم من سيقررون هوية رئيس الحكومة (في الانتخابات المباشرة لرئيس الحكومة)، ليقول- أي (رودييتسكي)- "الجماهير العربية بإمكانها تقرير مصير دولة إسرائيل" (موقع بَانِت 27-10-2022). أي أن العرب مسؤولين عن مصير الدولة التي قامت على أنقاض شعبهم، والتي تعتبرهم أعداء وليس مواطنين. وعلى ما يبدو لم يراجع هذا الدكتور فشل زميله (سموحة) قبل ثلاثة عقود من الزمن.

تذهب الكاتبة شيرين صعب إلى أبعد من ذلك فتقول "لا تستحقُ أجيال المجتمع العربي القادمة هذا العقاب الجماعي الذي نصنعه بأيدينا من خلال امتناعنا الاقتراع" (هآرتس 24. 10. 2022)، متبنيّة بذلك موقف النُخب اليهودية التي تعتقد أن عدم تصويت العرب هو ما سيجلب الويل لهم. بالمناسبة: إن مصطلح العقاب الجماعي مستعار من الممارسات العسكرية ضد عرب فلسطين.

أما (دورون نبوت) مدير المركز اليهودي العربي في جامعة حيفا فيخص بالتحريض والمسؤولية حزب التجمع ليقول: "يشكل خطاب التجمع خطورة على مكانة المواطنين العرب في إسرائيل، ناهيك عن الذين قد يتعرضون للقتل والإيذاء" (هآرتس 8. 10. 2022). يشاركه في الرأي الدكتور سليم بريك من الجامعة المفتوحة، إلا أنه يتحدث في أمور كثيرة ومتناقضة عن الأسرلة والتطرف تعود إلى مدرستي (سامي سموحه) و(إيلي ريخيس) في القرن الفارط (عند (ينيف شارون) دفار 1، 23. 9. 2022). في هذا السياق أنصح كل من يجيد العبرية أن يقرأ هذه المقابلة قراءة نقدية بمنهج التكليف.

على النقيض من (نبوت) وبريك دافع كل من الكاتب أنطوان شلحت والدكتورة هنيدة غانم عن خيار التجمع ودعيا إلى أهميّة التصويت له (عند عمر دلاشة، عرب 48، 31. 10. 2022). لا بأس من هذا الدفاع إلا أنه لم يكن مقنعاً لي على الأقل.

* * * * *

اتسمت الانتخابات الأخيرة بمشهد فريد في السلوك التصويتي لمجاميع عرب 48 تمحور حول رفع نسبة المصوتين التى رعاها الكيان بواسطة بعض مؤسساته الرسميّة أو شبه الرسميّة كالجمعيات المختلفة بأموال أمريكية وألمانيّة، إضافة للعديد من القوى الإقليمية العربيّة (سلطة رام الله، قطر.. والإمارات). فقد تبنت هذه القوى مجتمعة هدفاً وشعاراً واحداً، ألا وهو رفع نسبة المصوتين، ولا يهمّها لأية قائمة ' يصوّت العرب: يسارية' أو يمينيّة نازية كقائمة الصهيونية الدينيّة لـ(إتمار بن حانن اليمني، بن جفير فيما بعد)، وإنما ظهر أن همهم كان رفع النسبة من أجل تجديد الشرعيّة للكيان وبواسطتها يمنحون الشرعيّة لجلاديهم الذين يهددونهم بنكبة ثانية مثل (يسرءل كاتس) و(متان كهانا)، أو بتطبيق (قوانين نيرنبرج) النازية كما الصهيونية المتدينة لـ(بن جفير). إلى هذا الفخّ، سارت القوائم الإنتخابية، ليس لأنها تدرك أهميّة التأثير (الوهمي)، بل لأنها شبقة للسلطة والجاه مثل الكثير من وجوه الحركة الوطنيّة الفلسطينية خلال القرن الماضي. فبعد أن كانت هذه القوائم تتمتع بـ15 ممثلاً في الكنيست الثالثة والعشرين عمل وجهائها ونخبها على خسارة ما لديهم من تمثيل وثقة مصوتيهم ثم أصبحوا يتسولون الأصوات صوتاً صوتاً. إنها حالة غريبة فعلاً.

يمكن القول إن اعتبار رفع نسبة التصويت بين المجاميع العربيّة وتحوّله إلى هدف واحد (أعتقد بوعي تام) كان الهدف منه استبدال المواقف السياسية والاجتماعية التقليدية (على علاتها) بشعار ستثبت نتائج الانتخابات عدم جدواه. فحلّ بدل هذه المواقف الردح والفهلوة حتى بتنا لا نميّز بين الإنسان العادي الذي يعتمد بثقافته السياسية على المنقول شفاهةً والذين (قِرْيوا) في الجامعات الإسرائيلية والأوروبيّة. هذا ما فهمته خلال متابعتي أحاديث المستمعين مع الإذاعات المحلية الدعائية وسماعي لعدة نشرات أخبارية وبرامج حوارية- لنقل الردح- في بعض المحطات التلفزيونيّة الدعائية. فقد اتضح من حديث الناس مع الإذاعات المختلفة ما يلي: 1- لا فرق بين العامة والخاصة من الناس الذين يعلنون مواقفهم دون منطق وجيه وكأن كل واحد منهم يقول: "عنزة ولو طارت"؛ 2- غالبيتهم يتحدثون بسرعة وعصبيّة بارزة؛ 3- يخلطون بين العربيّة والعبرية كأن (بن يهودا) هو ابن عم المتنبي "خيّ البيّ"؛ 4- من الصعب فهم مواقف غالبيتهم بسهولة لأن حديثهم يفتقد إلى الترابط المنطقي البسيط؛ 5- بعضهم يعاني من إفراط مذهل بأهميّة الذات فيسمح لنفسه أن ينادي ويناشد الناس للتصويت؛ 6- يتحدثون بحماسة بالغة إلى درجة قيام منتج أحد البرامج بإسماع الناس أغنيّة "علّي الكوفيّة" (بالمناسبة: سمعتها لأول مرّة في حياتي من موبايل جندي إسرائيلي كان يجلس أمامي في الباص من حيفا إلى القدس! أما مقدم البرنامج فكثيراً ما كرر: الله لا يضيّع صْواتكو!). في هذا السياق استوقفتني نشرة الأخبار التي بثها تلفزيون مساواة الدعائي في الساعة العاشرة ليلاً، يوم الأحد، الثلاثين من شهر أكتوبر الماضي، فقد قابل مراسله، ياسر العقبي، في راهط رجلين من خلفيّة أكاديمية في أحد مقاهي الأراجيل الخالية إلا من الرجلين اللذين قصفا المشاهدين بشعارات حول أهمية وضرورة التصويت. كما نقل التلفزيون من قرية أبو غوش وقائع اجتماع لتأييد التصويب! نفس المواقف كررها كلاً من الدكتور غزال أبو ريّا، المتحدث باسم بلدية سخنين، والأب عارف يمين، راعي الطائفة الكاثوليكية في سخنين، وأعطى الأخير شرعيّة للمقاطعين إلا أنه شدد "على ضرورة ممارسة هذا الحقّ"؛ أي حقّ التصويت. أما درّة التاج فكانت مراسلتهم السيدة سندس مريح التي قالت أن (بن جفير) يريد حقيبة وزير الأمن الداخلي وهو لم يخدم في الجيش! شخصياً فهمت- وإذا غلطت صححوني- أن السيدة مريح ومؤسستها الدعائية ستلتمس إلى محكمة العدل العليا إذا ما تم تعيين وزير الأمن الداخلي الذي يمتهن قمع العرب دون أن يكون خريج وحدة قتالية أو قائد سلاح المظلات. كما استضاف تلفزيون مساواة يوم الانتخابات عضو الكنيست (المعراخي) صالح طريف الذي قال أن المقاطعة هي تصويت للإستيطان وكأن حزبه هو الذي "جاب الهويّة". يؤكد تصريح السيدة مريح واستضافة طريف إلى أي منحدر يمكن لأصحاب خطاب التأثير 'على الناشف 'أن ينزلقوا.

* * * * *

انتهت انتخابات الكنيست الخامسة والعشرين بحصول اليهود على 110 عضواً من أصل 120 . أما العرب فرغم ارتفاع نسبة المصوتين من 40- 55%، أي بزيادة 28% عن الانتخابات السابقة فلم ينعكس هذا في زيادة مماثلة لعدد المقاعد، ولم يحصل التجمع على نسبة الحسم. بناء هلى هذا يمكننا التلخيص بما يلي:

أولاً- قبل شهرين نشرت مقالاً عن هذه الانتخابات ونتائجها بعنوان "الانتخابات في (إسرائيل): يهودية- يمينية- متطرفة مقابل يهودية- يمينية- ليبرالية"، قلت فيه: بأن لا أهمية لأصوات العرب إن تمكن أحد المعسكرين بالفوز وتشكيل الحكومة القادمة. وهذا ما حصل عملياً بفوز المعسكرين وإلغاء أي دور محتمل لتأثير العرب. وهذا ما لم يفهمه وجهاء عرب السياسة الإسرائيلية ونخبها. فهؤلاء توهموا بأن بإمكانهم التغيير فقط لأن مُشغليهم العرب الإقليميين والأجانب أوهمومهم بذلك (...). في هذه الانتخابات حصل المتدينون اليهود بأشكالهم وألوانهم المختلفة على 33 عضواً في الكنيست التي تتحول رويداً رويداً إلى (سنهدرين) جديد لهم. وبخسارة (ميرتس) تكون آخر طبقة من طبقات مكياج الديموقراطية اليهودية والتقاسم الوظيفي قد انتهى.

ثانياً- ليس من المفروغ منه أن يشكل (نتنياهو) الحكومة مع قائمة (بن جفير) ذي النزعة النازية التي حصلت على 14 عضواً، بل سيعمل مثقفو اليهود في الداخل والخارج ومعهم الأمريكان والأوروبيين على إقناع (جانتس) للإتلاف مع (نتنياهو) خوفاً على سمعة إسرائيل. عندها سيواصل (بن جفير) وجماعته التغلغل في مؤسسات الدولة والمجتمع والجيش لبناء أجهزة ظلّ على يمين الدولة في تعاملها مع العرب كما فعلت كل الحركات العنصرية التي تتدعي التفوق العرقي كالنازية والفاشيّة على مرّ التاريخ. ومن المحتمل كذلك أن تنضم حركة الإسلام الإسرائيلي لهذه الحكومة، لا لسبب، بل لأنهم عبيد المنازل.

ثالثاً- أ- لم يُدرك منظرو القوائم الانتخابية ومستشاريها أن حثّ العرب واستجدائهم للتصويت، هو كذلك حثّ اليهود على التصويت. لذا فإن زيادة المصوتين العرب بنسبة 28% لم تنفعهم كثيراً بدليل أن التجمع لم يتمكن من تجاوز نسبة الحسم. هؤلاء لم يدركوا أن الطريق ليست لهم وحدهم، بل للآخرين خاصة وأنهم هم من شقّوها، وعبدوها، ووضعوا قوانين السير عليها. أقصد: الدعوة لزيادة التصويت العربي تؤدي حتماً إلى زيادة نسبة التصويت اليهودي. وهذا ما حصل في الكنيست الثالثة والعشرين.

ب- إن تحويل (بن جفير) دون غيره إلى فزّاعة لرفع نسبة التصويت كان خطأ في فهم موقف اليهودية وإسرائيل من العرب. فـ(بن جفير) ينهل عدائيته وعدوانيته للعرب من عقيدة "شعب الله المختار" وقانون القومية الذي اعتبر فلسطين جزءاً من أرض إسرائيل، واعتبر العرب الذين يعيشون في المنطقة الممتدة من السواحل الشرقيّة للمتوسط إلى تخوم الأنبار العراقية سكاناً في أرض إسرائيل المزعومة منزوعي حقوق المواطنة. و(بن جفير) الذي أدين ثماني مرات وفُتح ضده ثلاثون ملفاً على خلفيّة جرائم سياسية ضد العرب، منحته الشرعية كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها الإعلام وجهاز القضاء والثقافة السائدة. فالشخص المذكور ليس أخطر من نائب قائد أركان سابق مثل الجنرال (يائير جولان) من (ميرتس) على سبيل الحصر وليس القصر. لو كان وجهاء القوائم الإنتخابية صادقون- في أعين ناخبيهم- في التحذير من المذكور لعملوا على توقيع اتفاقية فائض أصوات على الأقل، إلا أنهم لم يوقعوا مما يدل على كذبهم وانعدام مسؤوليتهم.

رابعاً. أ- إن فشل التجمع وغيابه عن الساحة السياسية، يؤكد بدرجة أولى فشل محاولات المنشقين من حركة أبناء البلد في سنتي 1983 (الأنصار) و1996 الذين شكلوا عماد وهيكل التجمع في حينه. لقد فشل هؤلاء لأنهم اعتقدوا أن بإمكانهم العمل على قاعدة ثنائية "الوطني واليومي"، الذي أصبح فيما بعد التوازن بين "الوطني والمدني" كما عرضها التجمع في "دولة كل مواطنيها". فشلت هذه المحاولة وستفشل لو تم تكرارها ألف مرّة أخرى، لأن المواطنة في السياق التاريخي والفكري هي من مستحقات الدولة القومية ومن مُنجزات السياسة والفكر البرجوازيّين.

ب- إن ما يُنقل عن عزمي بشارة بأن المُنشقين عن الحزب الشيوعي هم الذين أقاموا التجمع- غير صحيح. صحيح أن خروجهم من الحزب في أواخر ثمانينيات- أوائل تسعينيات القرن الماضي دفعه على إقامة حركة "ميثاق المساواة" إلا أن الميثاق لم يتمكن من التحوّل إلى 'حزب جماهيري' لأن خروجهم كان احتجاجاً ضدّ مسلكيات حزبيّة تم تغليفها بخلاف سياسيّ، وهذا لم يكن كافياً لإقامة حزب إلى أن انضمت حركة أبناء البلد التي شاركت في انتخابات سنة 1996 والتصويت لـ(شمعون بيرس)، لكنه لم يفُز (...). فانضمام أبناء البلد إلى الجماعات التي تحلقت حول بشارة منح هذه الجماعات دفعة سياسية وشرعية وطنيّة بالأساس و(شبه فكرية) بدأت 'بالتنظير' للتجمع. برز دورها الكبير في الشهرين اللذين سبقا الإنتخابات حيث انبرى البعض بالحديث والكتابة عن ضرورة إحياء التجمع والاستغاثة لرفع نسبة التصويت ولا يزال الحديث مستمراً. على كل حال، فقد قاموا بمنح الشرعية للكيان. (ملاحظة للتاريخ: بعد انتخابات 1996 قرر قسم من أبناء البلد العودة إلى الحركة لكنهم لم يتمكنوا من الحفاظ على وحدتها).

ج- يمكن القول إن شعار التأثير في مفهومه الحالي هو نتاج خطاب متجذر في فكر العمل السياسي في الـ48، انبثق عن ضرورة إيجاد التوازن بين الوطني والمدني الذي تشترك فيه جميع القوى البرلمانية وإلا لما كانت فيه، مثل حركة الإسلام الإسرائيلي، الجبهة والتجمع. فهو من مستحقات استقرار الوضع الاقتصادي الاجتماعي لقواعد وقادة ونخب هذه القوائم الذي تجلّى باكتسابهم العمل في مهن حرّة والقدرة على الإقتراض من البنوك والشركات المختلفة وسداد الديون في مواعيدها. لذا باتت هذه القوى تبحث عن تعبير سياسي داخل المؤسسة اليهودية السياسية التي أنتجتها وترعاها لتحديد سقف حراكها السياسي (...). صحيح أن هنالك فروقات بين الإسلام الإسرائيلي، والجبهة في فهم التأثير، والتجمع الذي يسوده نقاش حاد حول قضيّة التأثير في صيغة الجبهة على الأقل (مطانس شحادة الذي تم اخفاءه في حفلة الاستجداء) أو عدمه (سامي أبو شحادة 'قائد الثورة المنتصر')، أي أننا أمام تشكيلة اجتماعية- سياسية تشترك في خلفيّة نشأتها بقبول دولة إسرائيل التي باتت واقعاً يجب التعامل معه 'بواقعيّة'؛ وتختلف في سرعتها بالإنخراط في مؤسسات اتخاذ القرار وتوزيع الثروات الاقتصادية والثقافية وغيرها من القيم، أي الاشتراك بصرف أموال ديّة القتيل الفلسطيني. تبلورت هذه المجموعات في العقدين الأخيرين تقريباً منذ وصول (نتنياهو) إلى السلطة (شرحتها في مقالي الذي أشرت إليه في بداية هذا المقال). هذه المجموعات تعتبر نفسها 'وسطى' لكن دون طبقة لها حواملها العضوية في دولتها القوميّة.

خامساً- بما أن هؤلاء القادة والنخب على قدر لا بأس به من المسؤولية، فإن مسؤولية تدمير ثقة مصوتيهم بهم وتبديد أصوات تأثيرهم (المزعوم) تقع على عاتقهم، وعليه يجب أن تتحول إلى قضيّة ملف جماهيري وطني لفتحه والتحقيق فيه ومعرفة الجهات التي تعمل ضد مصلحتهم سواءً التي في الداخل أم في الخارج. إن المرور عن هذا الملف دون محاسبة ومراجعة سياسيّة أخلاقيّة يمكن فهمه على أساس تطور مفهوم التنسيق الأمنيّ مع اليهود ومنح الشرعية لهم بتصعيد القمع والتنكيل بعرب فلسطين. على هؤلاء الوجهاء والنخب أن يدركوا أن أفعالهم هي التي سحبت ثقة الناس بهم، أو ثقة مُصوتيهم على الأقل.

نختم بما يلي: تمكنت إسرائيل في الانتخابات المذكورة من دفع القوائم الانتخابية للعرب بابتزاز أعداد كبيرة منهم لتجديد شرعيتها حتى لو ادعت تلك القوائم خلاف ذلك، كما عملت على خفض سقف حراكها بدليل التأكيد على "التأثير" وإخراج التجمع من الحراك السياسي في "دولة المواطنين" المشتهاة، وعمّقت حالة البلبلة حول التأثير من الداخل والخارج، وهي مسؤولة عن تنامي أسلوب الردح الذي أصبح الأسلوب الوحيد للنقاش والحوار السياسي بينهم. لذلك يجب منح المصوتين وغيرهم الحق في معرفة مصير الأقاويل التي تتحدث عن الذي تدرب على أيدي (William J. Burns)، وينسق مع اليمين المسيحي في الأردن (نريد أن نسمع أنها كاذبة). بهذا تكون هذه القوائم قد أتلفت وضعاً سياسيّاً يعتبر مُلكاً للجميع وليس للمصوتين وحدهم، وهذا ما لم يكن بوسع سلطات إسرائيل القيام به وحدها.

في النهاية نقول ما يلي: نقف عند مدخل خيمة متضرري الانتخابات الأخيرة، ونضع يدنا اليمنى على صدورنا ولا ننظر إلى أعينهم خوفاً من الحرج أو الندم بنظراتهم ونقول لهم: لا تعيدوها! 

المصدر: موقع إضاءات الإخباري