مفارقات بيانات التنديد\ زاهر بن حارث المحروقي
مقالات
مفارقات بيانات التنديد\ زاهر بن حارث المحروقي
6 شباط 2023 , 18:33 م


بقلم: زاهر بن حارث المحروقي

نحن نعيش فعلا في الزمن العربي الخائب، لم نتصوّر يومًا أنه سيمتد بنا العمر لنصل إليه، حيث انقلبت الموازين على أعقابها، لكثرة ما قرأنا البيانات العربية المندّدة بكفاح شعب اضطُهد أكثر من سبعين عامًا، فيما نسيت هذه البياناتُ الجرائمَ الإسرائيلية في الشعب الفلسطيني طوال عقود، وكأنّ على الفلسطينيين ألا يدافعوا عن أنفسهم مهما جرى لهم. ويبدو أنّ مثل هذه البيانات مقدّمة لسيناريو مخيف، نراه حاليًا خياليًا، ولكنه قد يصبح واقعًا، عندما تصدر غدًا بياناتٌ من نوع آخر "كأن تُصدر وزارة خارجية تابعة لنظام تطبيعي بيانًا شديد اللهجة، يطالب بانسحاب الفلسطينيين من الضفة الغربية، وإنهاء احتلالهم لها، والاعتراف ب (جبل الهيكل) الذي كان يسمّى سابقًا عند المسلمين بالمسجد الأقصى"، كما تصوّر ذلك الكاتب الأردني د. محمد أبو بكر في صحيفة "رأي اليوم".

يحار المرء وهو يقرأ بيانات الشجب والتنديد العربية، للعملية التي قام بها خيري علقم يوم الجمعة 27 يناير 2023، عندما قَتَل ثمانية أشخاص وجَرَح آخرين بالقرب من معبد يهودي بحيّ استيطاني بالقدس الشرقية، ثأرًا لشهداء جنين، عندما اقتحمها الصهاينة يوم الخميس 26 يناير، فقتلوا فيها ١٠ أشخاص بينهم امرأة مسنة؛ وهي المجزرة التي لم تجد إلا إدانات عربية خجولة، عكس البيانات شديدة اللهجة التي صدرت عقب عملية القدس. والغريب في موضة البيانات التنديدية العربية هذه، أن تتجاهل العنف والإرهاب الصهيوني ضد فلسطينيين عزل، بل تساوي بين المجرم والضحية، ثم تتشدق بعد ذلك بما تسميه "رفضها الدائم لجميع أشكال العنف والإرهاب التي تستهدف زعزعة الأمن والاستقرار، وتتنافى مع القيم والمبادئ الإنسانية"، ووصل الأمر إلى أن تعرب عن "خالص تعازيها للحكومة الإسرائيلية" وما تصفه بـ "شعبها الصديق". وما لم أستطع استيعابه هو أن تطالب بعض البيانات ب "ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، ووقف الاعتداءات والإجراءات الاستفزازية لتجنب الانزلاق إلى حلقة مفرغة من العنف، الذي يزيد الوضع السياسي والإنساني تأزمًا، ويقوّض جهود التهدئة وكافة فرص إعادة إحياء عملية السلام"، وهي عبارة لا يمكن أن يكون الكيان الصهيوني المقصود بها، فإذا كانت مساواة الجزار بالضحية خطيئة، فكيف إذا كان المطلوب من الضحية أن يضبط نفسه ولا يدافع عن عِرضه وأرضه وكرامته، من أجل شيء وهمي هو "من أجل إعادة إحياء عملية السلام"، فأيّ سلام هذا الذي يتحدثون عنه، ومتى أصلا تحقّق هذا السلام؟

من المفارقات العجيبة أن تكون مواقف بعض الدول غير العربية أشرف بكثير من المواقف العربية وبياناتها، ومن ذلك تصريح وزير الخارجية الكوبي برونو رودريغيز الذي قال بالفم المليان: "ندين بشدة أعمال العنف التي ترتكبها "إسرائيل" ضد السكان الفلسطينيين في مخيم جنين.. فهذه الأعمال تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني، وتهدّد أمن فلسطين والشرق الأوسط". وكذلك فإنّ الموقف الروسي لم يكن بعيدًا عن الموقف الكوبي، إذ لفتت وزارة الخارجية الروسية الانتباه إلى أنّ ذلك الهجوم على المعبد اليهودي، كان نتيجة للحملات العسكرية الإسرائيلية في مدينة جنين، كما أنّ جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كان متزنًا في تصريحه؛ صحيحٌ أنه دعا "إسرائيل" إلى عدم اللجوء إلى استخدام القوة المميتة إلّا "كملاذ أخير"، منددًا "بشدّة" بالهجومين اللذين نفذهما فلسطينيَان يومي 27 و28 من يناير 2023، وهي لهجة غير مريحة - طبعًا - فيها تحريض على قتل الفلسطينيين، إلا أنه ذكّر بأنّ "تسعة فلسطينيين على الأقل قُتلوا يوم الخميس 26 يناير في جنين، وأُصيب أكثر من 20 خلال عملية للقوات الإسرائيلية"، ممّا يرفع "عدد القتلى الفلسطينيين في الضفة الغربية إلى 30 منذ مطلع العام"، وذكّر أيضًا أنّ القوات الإسرائيلية قتلت أكثر من 150 شخصًا في الضفة الغربية، منهم 30 طفلًا، في حصيلة هي الأعلى منذ انتهاء الانتفاضة الثانية في العام 2005؛ وهو بتصريحه هذا يعلن - ولو بأسلوب مبطن - أنّ ما فعله الفلسطينيان إنما هو ردة فعل على الأعمال الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين، وهو ما افتقدناه في البيانات العربية.

هناك تصريحات إسرائيلية شبه رسمية تعترف وتقر بأنّ اقتحام مخيم جنين كان المحفز الرئيسي للفلسطينيين للثأر، وهو ما كشفه ألون بن دافيد مُحلِّل الشؤون العسكريّة في القناة الـ 13 بالتلفزيون الإسرائيليّ، عن أنّ الجنرال يهودا فوكس، قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال الإسرائيليّ، قال في جلسةٍ مُغلقةٍ بعد العمليتيْن في القدس، إنّه لو كان على علمٍ بأنّ نتائج عملية اقتحام مخيّم جنين، ستكون مأساويةً، لما كان صادَقَ عليها؛ وهو ما أكده المستوطنون الإسرائيليون، عندما هاجموا إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي الإسرائيلي لفظيًا، خلال زيارته لمكان تنفيذ العملية، وحمّلوه مسؤولية عملية إطلاق النار بمدينة القدس المحتلة، بسبب اقتحامه لباحات المسجد الأقصى.

صراحةً الاعتراف بالجهل بالشيء ليس عيبًا، فأنا لا أفهم ما هو المقصود بـ "المجتمع الدولي" الذي كثر استخدامه في البيانات العربية، المُطالَب بتحمّل مسؤولياته نحو وقف التصعيد ودعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني بإنهاء الاحتلال وتحقيق السلام العادل والشامل؛ فنحن طوال سبعة عقود ونصف نسمع كثيرًا بيانات الدول العربية تناشد هذا "المجتمع الدولي" لتحمل مسؤولياته، ولا نعرف من هو أو من هم؟ ولم نر أنّه قد استجاب لهذه المناشدات، ممّا يدلّ على أنّ هذه البيانات والمناشدات ليست إلا للاستهلاك الإعلامي فقط، ولم تعد تنطلي على الشعوب العربية. ومع ذلك نقول إنّ بعض البيانات كانت في السابق تقف مع الضحية ضد الجلاد، أما الآن فما نشاهده ما هو إلا انتكاسة كبرى، عندما يُطلب من الضحية ضبط النفس والرضا بالاعتداءات.

إنّ العالم - بما في ذلك الكيان الإسرائيلي - لا يعترف إلا بلغة القوة، ولا يحترم إلا القوي، فما فعله خيري علقم في القدس، وما فعله محمد العليوات الفتى الفلسطيني ابن الثلاثة عشرة عامًا في حيّ سلوان، عندما أطلق النار في القدس الشرقية فأصاب اثنين من المستوطنين، هو أبلغ من كلّ بيانات الإدانة التي صدرت، ومن الخطأ القول إنه أصاب مدنيين؛ فالكيان الإسرائيلي هل يقتلُ غير المدنيين؟ ثم هناك تعريفٌ خاطئ، بأنّ المستوطنين هم مدنيون؛ فكلّ من استوطن في قرية فلسطينية، احتلها وشرّد أهلها منها، فحكمُه هو حكم العسكريّ المحتل. وما فعله محمد العليوات يطرح تساؤلًا: ما الذي يجعل طفلًا لم يتجاوز الثلاثة عشرة ربيعًا، يتجرأ ويطلق النار؟ يرد على السؤال الكاتب الفلسطيني وسام الفقعاوي، بأنه هنا تتجلى سيكولوجيا الشعب الفلسطيني، الذي يختزن بداخله كلّ عوامل تحفيز الرد الغريزي؛ "دفاعًا عن وجوده، في سياق العملية التحررية المديدة، التي لم تفسدها "ثقافة السلام" وشعارات "حقوق الإنسان" وأفكار "التعايش السلمي"، لكن بفطرته أدرك استثنائية الفلسطيني من هذا "الهراء" الذي لا يمكن أن ينسجم ووجود الاحتلال.. ولا يمكن أن نصدّق أنّ القوى الاستعمارية الإمبريالية التي تدعمه؛ تحرص أنّ تجسّدها واقعًا في فلسطين". وكعادة الشعوب العربية فإنها أظهرت تأييدها لعمليتي القدس، واعتبرت منفذيهما خيري علقم ومحمد عليوات أبطالًا، عكس الموقف الرسمي العربي الذي سارع إلى إصدار بيانات الإدانة. وأنا لا أدري ما فائدة مثل هذه البيانات التي زادت كثيرًا في الآونة الأخيرة؟ وهل كلّ حدث يحتاج إلى صدور بيان؟ فأحيانًا - وربما غالبًا - يكون الصمت أبلغ. وسواء صدرت بياناتُ تأييد إنشائية للفلسطينيين، أو صدرت بياناتٌ تندّد بالمقاومة الفلسطينية، فإنّ الحقيقة الناصعة هي أنّ استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني هو السبيل الوحيد للانتصار، أما غير ذلك من العبارات المنتشرة في عصر الردة مثل "ثقافة السلام" و"التعايش السلمي" و"التنسيق الأمني" و"حقوق الإنسان" و"المجتمع الدولي" و"العالم الحر" فكلها من المسكّنات فقط. والمؤسف أن أكرر ما سبق وأن قلتُه في مقالات سابقة، إنّ على الفلسطينيين أن يعتمدوا على أنفسهم فقط، حتى ولو بالمقاومة بالحجارة، ويكفيهم أن يرفضوا الخضوع والانصياع للضغوطات العربية؛ فالمؤشرات تدلّ على أنّ هذه الضغوط ستزيد كثيرًا في الشهور القادمة. 

المصدر: كزقع