في البحث عن الله\ سامح عسكر
ثقافة
في البحث عن الله\ سامح عسكر
سامح عسكر
24 نيسان 2023 , 18:54 م

كتب الكاتب سامح عسكر,,

منذ أن خرجت من جماعة الإخوان المسلمين لم يقف تطوري الفكري على مغادرة الجماعة المتشددة فحسب، ولكن كل ما يتعلق بها من فكر ومذاهب وأيدلوجيات وأديان شائعة بشرية، صار لدي الخروج هو (الولادة الثانية) لي ولروحي ، كان الطريق من المذهبية والإخوان للتنوير والعقلانية شائكا لكنه كان ممتعا في ذات الوقت، فأحسست بلذة العلم وشبق المعارف.

لم يخطر ببالي أن الله صار عندي معنىً وهدف ، فأصبحت العقيدة أخلاقية تربوية بدلا من كونها سياسة وحُكم وعصبية جوفاء، وفي الطريق لم أكف يوما عن البحث في أصول العلم فسألت نفسي أسئلة لم تخطر على بال اللادينيين وأعتى خصوم الأديان سجلتها في صفحتي بالفيس بوك تحت عنوان "#فكر_معانا"، فهدفي لم يكن التشبث بعقيدة أكثر من رؤية الجذور والاستمتاع بلذة المنشأ، فأنا منذ أن رأيت قُبح الجماعات والمذاهب رأيت معهم صدق الأديان ومنشأها الواحد، كأني أنظر لمئات الأشجار فتُبهرني ألوانها واختلافاتها حتى قادني الفضول لرؤية الماء الذي يرويها والطيور والكائنات التي تستظل بظلها من حرّ الشمس.

فالأديان هي الأشجار التي تحمي العالم والحياة من قسوة البيئة والطبيعة، والذي يرويها لم تكن ترى منه سوى الماء الذي ينساب من الجداول والوديان ، فتظل تبحث عن أصل ذلك الماء وتلك الحياة الخالدة التي رويت العالم، وأعترف أنني لم أحس بذلك الأصل لكني شعرت به في وجداني وأطرافي وقلبي وبدني كله.

حقا كأني سمعت طائرا يغني بصوت جميل ولحنٍ رائع فذهبت لأشكره لكني لم أراه، مع ذلك أسمعه ولدي يقين جازم برؤيته يوما، ولما لا فالكون عندي كله راقصُ جميل فالحركة التي تنساب من مفاصله بتعبيرٍ ونظام لا يمكن إلا أن تكون هي (رقصة الحياة) فعندما بحثت عن الله وأصل ذلك الوجود لم أبعد بخيالي عن تلك الرقصة الكونية الرائعة التي تشترك فيها الأجرام والسماوات والشموس والكواكب والأشجار والبحار في سيمفونية بديعة يقف العقل ورائها حائرا ، يجزم بقلبه وحواسه أن ورائها (مُبدع بديع) ومثلما تتمنى أن لا تنهى رقصات الجمال والإبداع تتمنى أن لا يموت العالم كي لا تشعر بالحرمان من ذلك السحر الذي يأسر كل عظيم ويحوي كل قوي ويدمر كل شرير أراد أن ينهي تلك الرقصة قبل موعدها.

قبل هذه اللذة أتذكر كل شئ بأدق التفاصيل، مرحلة المذاهب والإخوان كانت مليئة بشعورٍ غريب سجلته في معاناتي وكتبي، فأنا الذي تدينت قديما على مناهج الحب والتقريب بين البشر لم أفلح بالخروج كليا من مستنقع الكراهية، فكل شئ حولي يدعو إلى ذلك المستنقع، خطيب المسجد، مسئول الدولة، أصدقاء الشارع والتعليم، مذيعي وضيوف الإعلام، كان المجتمع بقعة سوداء مظلمة ترى الآخر شيطانا، وبرغم الحرية التي وضعت لي بالاختيار بين سماع ما أحبه شرط أن يكون متدينا لا يخرج عن الثوابت لكني رأيت تلك الحرية كصنم الجليد الذي يذوب مع أول حرارة، فشكلها الجميل لم يخدعني أثناء خروجي..وحرارة التنوير هي التي كشفت زيف هذه الحرية وأنها لم تكن سوى عبودية من نوع مختلف..

تحدثت مع ِأشخاص وأصدقاء من أديان مختلفة لكي أرى ما يرون، وقد وُفّقت في الجمع بين كل صورهم عن الله رأيتها مشتركة زاهية التفاصيل..أراها بوضوح كأني في مهرجان ألوان وغناء ساحر كلُ يبتهج به رغم أذواقهم المتنوعة، لم يفكر أحد منهم في مصادرة ديني أو وقفي عن التفكير في اختياره عدا قلة قليلة رأيت فيهم روح الإخوان والمتشددين.. رغم انتمائهم لأديان غير مسلمة واتجاهات لادينية بالمجمل، وقد تعففت عن الصراع معهم ليقيني أن ما يحكمهم هو الرغبة لا العقل والحكمة، فأسوء ما يعاني منه الإنسان هو رغباته التي لا تشبع وترى في الآخرين عبيدا وخَدَما لا يجوز لهم التفكير، حتى هذه اللحظة التي فكرت فيها بالانفصال عنهم كنت حزينا على فراقهم لعلمي ما هو الإنسان وما هي قيمته التي يجب أن تكون ونجعلها دستورا كونيا في سائر الأديان، ويقيني أنه فور جمع المتدينين على ذلك الدستور سيروا الله الحقيقي لا الزائف الذي صنعته أياديهم بجهل وعلم..

لقد اتهمت بالتشيع لأنني أحب الشيعة واتهمت بالنصرانية لأنني أحب المسيحيين واتهمت بالإلحاد لأنني أحب الملحدين، لم يدرك هؤلاء لذة الحب التي لولاها ما كان الكون، فأعظم الأشياء أن تحب دون شروط، فقط لأجل الحب تجعل كونك وحياتك أشبه بالمقطوعة الموسيقية، لم يدرك هؤلاء كيف يرى الأنبياء والقديسون الله والدنيا والطبيعة ، لم يتأملوا في صلاةٍ عميقة تذهب أرواحهم إلى العُلا في ساعة صفاء، لم يروا الله في داخلهم بل رأوا الشيطان يزين لهم أعمالهم ويريهم الآخر قطعة من الجحيم، لم تتهذب عيونهم عن رؤية القبائح فسكنت في أجسادهم الشياطين والأشباح التي تأمرهم بالقتل والعنف والتكفير والتخوين لمجرد الخلاف، وليس ذلك إلا تعبيرا مجازيا عن ما أرى ليقيني أن ما حملهم على تلك الأفعال هي النفس الأمارة بالسوء، فقد حصدوا ثمار الجهل والقطيعة والغرور وما دور الشياطين إلا صورة هُلامية تُعبّر عن قُبح ما فعلوه مع الناس..

لكن شيئا ما أوقفني..هل هذا ديني؟ وما الذي الضامن ليكون صحيحا؟

في كل مرة سألت ذلك السؤال أشعر بالنشوة، فلست كبعض الذين يقلقون من هذه السؤالات الشائكة، فهي مقدمة عندي لبحث لذيذٍ وممتع، أيام وسنوات مع النشوة غير الجنسية..إنها نشوة العلم، وفي كل مرة أملك الإجابة أشعر بأن هناك شيئا مفقودا عليّ تحمّله والبحث عنه بشتى الطرق، ولا أزعم أني ملكت الإجابة الكلية عن هذا السؤال، فالنشوة التي أشعر بها تُنسيني قلق الإجابة، فالدين الذي أراه هو مزيج من الحكمة والذكاء والبلاغة والعمق وكل شئ جذاب، فالذي يجذبني للحقيقة هو الذي سيريني الله والدين، وأبسط تطبيق عملي على هذه النشوة أنه في أحد لقاءاتي ومحاضراتي المصورة سألني المذيع : ماذا لو رأيت أن القرآن والكتب المقدسة خاطئة؟ قلت على الفور: إن من يبحث عن الله لن يهمه أي كتاب فلست ممن يذودون أنفسهم للدفاع عن الكتب المقدسة، لكني أشرحها بعقلية الحكيم المؤرخ الناضج الذي يرى أن ما يجمع هذه الكتب جميعها هو الذي يروي الحياة بفضله ونوره.

إن اللغز الذي يكمن في تفاصيل هذا السؤال هو ما يقلق الناس ، ذلك اللغز الذي يتطلب تمييز معتقداتك عن نظائرها وأشباهها، وتلك النقطة هي بداية التعصب الديني، فالسؤال يحوي في عمقه تعصبا دينيا مخفيا يبصره الحكماء، ففور الإجابة عليه أن هذا دينك وهذا رمزك على الفور ستتفرغ كليا لإثبات تميزه عن قناعة تهيمن عليك أن سقوط ذلك الرمز يعني سقوط الدين، فتندفع مأسوفا عليك لتقليد الرموز والأشخاص بينما يظل الله مفقودا والعدالة غائبة واللطف معدوم، وتلك ما حملت الجماعات والكهنة على التعصب وتكفير الآخرين، فهم الذين انتقلوا من ثبوت الدين لثبوت الرمز للدفاع عنهم ضد الأعداء، ولو كان في أنفسهم راحة تجاه هذه الأديان ما شقوا على أنفسهم عناء الدفاع، فالإله الذي لا يدافع عن نفسه بنفسه ليس إلها..والرب الذي يأمر الناس بالقتل والعنف دفاعا عنه ليس ربا، إنه وهم كبير ومصالح مادية تهيمن على أذهان البُخلاء قليلي العطاء وعلى الأغبياء ضعاف الفهم.

فالعطاء دون شروط هو ما يقربك لله، والبخيل لا يملك متعة التواصل مع الرب، فإذا صلى في المعبد لا يشعر بحرارة الإيمان وضوء المعارف..تلك الحرارة وهذا الضوء هما ما يدفعان البشرية كلها للعطاء وبذل المجهود في الخير ومن ثم بناء الأرض وعمارتها، فاللوهلة الأولى نكتشف أنه لولا فعل الخير ما بقي الناس وانقرض الجنس البشري منذ ملايين السنين، ولولا العطاء ما رأينا الدول والمجتمعات تزهو وتتطور وتغني..ولولا ضوء المعارف ما نهض الإنسان وتطور حتى صار كبير المخلوقات ومهيمنا عليها وقائدا لهذا الكوكب الصغير، وأنه لولا الحب غير المشروط ما كان العطاء ، والدين الذي لا يتكلم عن الحب أو ينقض أساساته ليس دينا، فلا يمكن لروح حية أن تعيش دون حب ولا مجتمع أن يبقى دون رحمة ولا فيلسوف أن يفكر دون جَمَال ولا حاكمٍ أن يبقى ويهيمن دون صبر.

تلك القيم الأربعة وجدتها في الإله، فربي هو الذي يحبني دون شروط ويرحمني حين أذنب ويصبر عليّ حين أضلّ الطريق، إن الله الذي أعرفه يأمرني بتذوق الجمال فلولاه ما عرفته، ولولا الحرية التي وهبني إياها ما ذقت هذا الجمال بين سحر المعتقدات الأخرى الزائفة، وأن ما يدفعني لذلك هو يقيني الجازم أن الحب الإلهي يتجلى في حرية الاختيار.. فلا محب يقسو على حبيبه ويفرض عليه نمطا معينا لا يقنعه، وهذا معنى الكفر الذي عرفته..فكل من لا يقتنع بطريقي ولديه نمطا آخر يرضيه ليس كافرا بالحقيقة..إنه باحث مثلي ، ولست ممن يبحثون ويفتشون بعقائد الناس فلا إيمانهم ينفعني ولا دون ذلك يضرني، لكني أسرد ما أراه في رحلة الإيمان وتجربتي مع الله التي أعترف بأن تفاصيل كثيرة منها لم تكن في الشدائد كما هو معتاد، فمن لا يعرف الله في البسطة لن يعرفه في الضيق..ومن يرى الله فقط حين يحتاج مساعدته هو أقرب الناس إلى البعد عنه ونسيانه

المصدر: موقع إضاءات الإخباري