د. ميادة ابراهيم رزوق*
على ضوء تسارع بناء وتعزيز علاقات دولية في أوراسيا، وأخرى عابرة للقارات مع الدول الأفريقية، أو بين إيران ودول أميركا اللاتينية يجمعها التمرّد على الأحادية القطبية الأميركية المهيمنة على العالم لبناء نظام عالمي متعدّد الأوجه وفق هندسة عكسية لتوازن عالمي جديد، تبدأ أولى ركائزه من العلاقات الاقتصادية، والتبادلات التجارية، فيما يمتدّ بالضرورة لعلاقات سياسية وأمنية وعسكرية، تعدّ مجموعة «بريكس» أبرز صيغة تعقد عليها الآمال في تهيئة مقوّمات تبلور هذا التوازن.
أبدت دول العالم منذ وقت طويل، اهتماماً كبيراً بالتعاون الاقتصادي بصفته منهجاً لتحقيق التنمية، ولتحقيق ذلك برزت العديد من التكتلات الاقتصادية العالمية (خاصة بعد انتهاء مرحلة الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقية بريتون وودز) صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ثم توسع المجال ليشمل التكتلات العالمية الإقليمية، مثل اتفاقية التجارة الحرة لشمال أميركا (نافتا NAFTA)، والمجموعة الأوروبية (EU)، والمجموعات الآسيوية، والأفريقية، والعربية، ومجلس التعاون لدول الخليج وغيرها.
لكن كلّ هذه التكتلات لم تترك أثراً إيجابياً في تنمية الدول النامية، التي ترزح بمعظمها تحت نير الهيمنة الأميركية وشروط صندوق النقد الدولي، التي تسلب الدول حريتها واستقلال قرارها السيادي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبما يخالف في الآونة الأخيرة القيم الإنسانية والأخلاقية، والفطرة البشرية السليمة «بما يتعلق بقلب مفهوم الحريات الشخصية، وحقوق الشاذين جنسياً، ووجوب تقبلهم في المجتمع»، لذلك برزت فكرة مجموعة “بريكس” التي تتألف من خمس دول (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا)، وهي صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، اتفقت في ما بينها على إنشاء كيان اقتصادي مضادّ للكيانات الاقتصادية الغربية في “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، وتضمّ نظاماً ائتمانياً بنكياً عالمياً جديداً يقضي على سياسة “القطب الواحد” التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية للسيطرة على مقدرات العالم واستغلاله اقتصادياً، عبر توجيه السياسات الاقتصادية، وفرض قيود تتحكم بالدول النامية من خلال صندوق النقد والبنك الدوليين، خاصة على البلدان النامية وبلدان العالم الثالث.
عقد تجمع الدول الأربع “بريك” اجتماعات سنوية منذ عام 2009 بشكل متواصل في الدول الأعضاء مع تناوبها على استضافة الاجتماعات، وقبل انضمام جنوب أفريقيا، وعقدت قمة “بريكس” الأولى (ايّ الدول الخمس بعد انضمام جنوب أفريقيا) في عام 2011، وكان من أهمّ أهدافها إنشاء بنك إنمائي جديد يهدف إلى “تعبئة الموارد لمشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في دول “بريكس” وغيرها من الاقتصادات الناشئة والبلدان النامية، تمّ الإعلان عنه في ختام القمة السادسة لدول مجموعة “بريكس” التي عقدت في 14 تموز/ يوليو عام 2014 في فورتاليزا في البرازيل، ليكون مقره شنغهاي الصينية، وبرأس مال بلغ خمسين مليار دولار، إضافة إلى إنشاء الصندوق الاحتياطي بقيمة مئة مليار دولار، ليتمّ تدشينه عام 2015، وليكون هذا البنك أداة مهمة لتشجيع الاستثمارات في مشاريع التنمية الكبيرة وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الدول الموقعة. بالإضافة إلى إمكانية إسهامه في تصحيح مسار الاقتصاد العالمي من خلال تسهيل الانتقال إلى أقطاب جديدة للنمو، والطلب والمساعدة في إعادة التوازن إلى المدخرات والاستثمارات العالمية، وتوجيه السيولة الفائضة إلى استخدام الإنتاجية، والقضاء على هيمنة الدولار في التبادلات التجارية الدولية.
وفي إطار التوسع لانتشار البنك عالمياً تمّ الموافقة على انضمام الإمارات العربية المتحدة، وبنغلاديش، وأوروغواى للبنك التابع لـ “بريكس” في نهاية عام 2021، ولتنضمّ مصر بشكل رسمي في نهاية آذار/ مارس 2023، أما بالنسبة لتوسيع مجموعة “بريكس” فقد تقدّمت 13 دولة للانضمام إلى “بريكس” أبرزها إيران، السعودية، سورية، الأرجنتين والإمارات العربية المتحدة والجزائر ومصر والبحرين وإندونيسيا، في اجتماع وزراء خارجية دول “بريكس” المنعقد في 2 حزيران/ يونيو الحالي في جنوب أفريقيا في كيب تاون، والتي شارك فيها أيضاً كأصدقاء “بريكس” إيران والسعودية والإمارات وكوبا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجزر القمر والغابون وكازاخستان، وعن بعد عبر الإنترنت مصر والأرجنتين وبنغلادش وغينيا بيساو وإندونيسيا، على أن تتمّ مناقشة قبول الانضمام في القمة المقبلة في شهر آب على مستوى الرؤساء، بالإضافة إلى إنشاء عملة موحدة لدول المجموعة، طبقاً لتصريحات سابقة لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، حيث تقدّم “بريكس” نفسها كبديل للكيانات المالية والسياسية الدولية الحالية “وخاصة مجموعة السبع”، بعدما بدأت كرمز للاقتصادات الأسرع نمواً حول العالم، وخاصة بعد الحرب الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي بشكل عام واقتصادات الدول النامية بشكل خاص.
تبرز أهمية توسع عضوية “بريكس” بما يساعد على تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد لن تكون قيادته حكراً على الغرب، ولن يكون فيه الدولار هو سيد عملات العالم، وخاصة بعد الحرب الأوكرانية، وما تبعها من عقوبات غربية على روسيا دفعتها إلى البحث عن آليات جديدة للتخلص من هيمنة الغرب، ساعدتها في ذلك الصين، وهي التنين الاقتصادي المترقب والذي عمل لعقدين ماضيين بتدرّج حكيم على إرساء مكانته كقوة اقتصادية عظمى.
وساعدت في ذلك الهواجس التي تدفع الدول العربية إلى الانضمام لهذه المجموعة؛ بعضها سياسي وبعضها اقتصادي وبعضها يجمع بين السياسي والاقتصادي، على وقع تراجع أميركي يصعب ترميمه، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ مكانة الولايات المتحدة الأميركية السياسية تراجعت في المنطقة العربية نتيجة لسياساتها المتراخية في مصالح كثير من الدول العربية الحليفة بالأمس القريب والمتشدّدة أو المتجاهلة عند تقاطع مصالح هذه الدول مع مصالح الولايات المتحدة.
إلا أنّ الأمر قد يستغرق بعض الوقت لترسيخ مكانة المجموعة على الساحة الاقتصادية، فدول مجموعة السبع لا تعتمد في هيمنتها على الاقتصاد العالمي على القوة الاقتصادية فقط ولكن أيضاً على علاقات سياسية واستراتيجية وعسكرية وترابطات قوية بمراكز صنع القرار في كثير من دول العالم… فالتجاذبات والصراع بين القوى الاقتصادية “العظمى” الصاعدة والقوى الاقتصادية العظمى التاريخية ستستغرق وقتاً حتى يتمّ تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد.
وفي الخلاصة، فإنّ المواءمة بين تسارع تطوير ووضع الاتفاقيات الموقعة بين الدول في أوراسيا أو مع الدول الأفريقية، أو أميركا اللاتينية موضع التنفيذ، مع تفعيل توسيع مجموعة “بريكس”، والبنك الإنمائي التابع لها، نحو عولمة بشكل جديد من العلاقات الدولية، كفيل ببداية تبلور حقيقي ورسم معالم نظام عالمي متعدّد الأوجه أساسه نظام اقتصادي عالمي جديد يقوّض عالم القطبية الواحدة، بما يخدم مصالح التنمية والرفاه لجميع شعوب الأرض…
*باحثة واكاديمية سورية