كتب الدكتور علي حجازي:
توابيت:
من وحي احتجاجات الصهاينة المحتلِّين فلسطين على استمرار حربِ حكومتهم برئاسة نتن ياهو لإبادة الفلسطينيين:
التابوت الأوّل :
أوراق صفر:
قاعة المعرض تغصُّ بالزائرين من عشاق الفنِّ والمتابعين المهتمين من نقّادٍ ومبدعين.
الفنّان التشكيلي يرحِّب بالمدعوِّين . قسمات وجهه تشي بهمٍّ ثقيل ، فابتسامته تبدو بطيئة ومغتصبة في هذا الزمن.
الناقد التشكيلي يتمتم:
- لِمَ كلُّ هذا العدد من التوابيت، فواحد منها يكفي لإيصال الرسالة الإنسانيّة الاحتجاجيّة رفضًا لهذا الموت الحاصل الآن ، على كلٍّ سأتوقف عند المحمولات الرمزيّة لكلِّ لوحة منها على حِدة، سأبدأ بقراءة الأولى، أي التابوت الأوّل.
التابوت في اللوحة الأولى مغطىً بأوراق جرائدَ قديمةٍ صُفْرٍ باهتةِ اللون.
حكّ جبهته ، وراح يحلِّل الرسالة القاسية الموجّهة إلى فريق ٍ كبير عامل في الصحافة، بل إلى شخص يحتلّ منصباً مهمًّا فيها بالتأكيد ، وسرعان ما أخذ يستعيد صوت ذلك
الشخص الذي صمّ أذنيه عن سماع استغاثة الخارجين من تحت الأبنية المدمرة في القطاع الصغير المحاصر ، ولم يبصر شلالات الدم النازف هناك ، وبلع لسانه ولم ينبس ببنت شفة استنكاراً للمجازر التي يرتكبها الجيش الذي كان يصنّف بالأقوى"والجيش الذي لا يقهر" والأغرب أنّني رأيته متصدّراً ذلك المنبر الإعلامي ، نافجًا حضنيه ، عويله مترافق مع عويل مستوطني الكيان، بعد تلك العصي التي طاولت كيانهم المغتصب، وأيدي جيشهم الملطَّخة بالدم البريء في غير مكان؛ مستنكرًا ذلك العمل الرادع المهمّ الذي قذف بعضاً من حِمَم النار ردّاً على تلك النيران التي تصليها قذائف مدافعه وطائراته وبوارجه، وشتى صنوف آلات القتل والدمار التي يصبّها على رؤوس الناسِ الأبرياء بعد تجويعهم، وتدمير المشافي والمخابز وآبار المياه التي تعينهم على الصمود والتشبّث بالأرض .
- ما هذا؟ التابوت زجاجيٌّ فارغ تغطيه أوراق الجرائد. ما الذي يقصده الفنّان بهذا؟ (سأل زائر).
- أنظر . المحيطون به يديرون له الأدبار ، ويرفعون عبارات مندّدة "مات من زمان"
- ما المقصود بهذه العبارة ؟
- أنظر ذلك يرفع صورة ذلك الشخص الصحافي وهويحمل تابوتًا،المفترض أن تكون جثته داخل التابوت. أمرٌ مُحيِّر. شخص حيّ يحمل تابوته ، فما الذي مات فيه إذاً ؟
- إذا رأى شخص ما هذه المجازر ، ولم يحرّك ساكنًا على الرغم من مسؤوليته ، فماذا تقول فيه؟ (قال الفنّان متدخِّلًا)
- - أقول : إنّه من دون ضمير
- - أحسنت الإجابة يا عزيزي
-شكرًا لك، وبقي أمر لم نقدر على معرفة دلالته.
- اتقصد أولئك المدبرين ؟
- - هذا ما يشغلنا.
- - هل قرأت مسرحيّة "ان جينيه" التي يصوّر فيها جنودًا فرنسيين وهم يودّعون رقيبًا من فصيلتهم أُصيبَ في مواجهة مع الثوَّار في الجزائر؟
- - لا لم نقرأها بعد. منك نستفيد.
- - سأل ضابط الرقيب المحتضر : ألك حاجة نقضيها لك الآن؟
- - أجل. أريد أن اتنشق نسيم بلدي .
- لك ما تريد الآن. قالوا ذلك وأداروا له الادبار ثمَّ أصدروا ريحًا وهم يردّدون:
- - هذا ريح من بلادنا تنشّقه جيّدًا قبل مغادرتك الحياة في هذه الأرض البعيدة التي نقتل فيها شعبًا يدافع عن أرضه .
- - الآن فهمت(قال الزائر)
- - ما الذي فهمته؟(قال الناقد)
- -هذا جزاء من يقتل ضميره ، ويبقى جثة حيّة من دون ضمير .هذا جزاء من يقفل مجاري سمعه والبصر والكلام عن الجرائم التي يرتكبها جيش محتلّ يغتسل الأبرياء في أرضهم ولا يحرّك قلمه احتجاجًا ، وفي الوقت نفسه ينبري باندفاع كبير للتنديد بمن يمدّ يد المساعدة لأولئك الصابرين المحتسبين المتشبثين بأرضهم وبصخرها وشجرها والتراب .
"توابيت"
التابوت الثاني:
اللوحة الثانية : "سقطت".
أمامَ اللوحة الثانية يحتشد جمع من زوّار المعرض، يتقدَّمهم الناقد التشكيلي الأستاذ أحمد.
أغراني المشهد فتقدَّمت مدفوعًا برغبة معرفة السبب.
في اللوحة تابوتان اثنان مسجَّيان في فضاءين مختلفين ؛غربيّ وشرقيّ.
الأصابع مصوَّبة إلى التابوت الزجاجيّ الأوَّل الملقى في فِناء جامعة غربيّة كبيرة ، ومتكرِّر في غيرها من الجامعات . الشعارات والصور والأعلام والكتابات واضحة المعالم .
الأصوات، أصوات الطلاب والأساتذة تصدح: " سقطت. سقطت ..."
- مَن ِ التي سقطت ؟(تمتمت)
الأستاذ أحمد الذي سمع سؤالي ،ربَّما ،ينظر إليّ، ويشرع في قراءة بعض تلك الشعارات والكتابات والصور:
" أوقفوا العرقباديّة الآن .الساميّة كذبة".
- - ما الذي تعنيه كلمة العرقباديّة؟(سأل زائر)
- - العرقباديّة مصطلح مؤلّف من كلمتين . الأولى: العرق ، وتعني قتل الناس بحسب أعراقهم وانتماءاتهم. والكلمة الثانية تعني إبادة (قلت)
-- هؤلاء الصهاينة يدّعون انتسابهم إلى سام .
وكيف ذلك؟(قال زائر )
- من أين لهؤلاء القادمين من الخزر ،ومن أوروبا وأمريكا وأثيوبيا وغيرها من البلدان الِادِّعاءُ بتحدُّرِهم من نسل سام؟(أجاب صديقي جمال أستاذ مادة التاريخ )
-- هؤلاء شذاذ آفاق طردتهم الدول الأوروبيّة إلى فلسطين، بعدما عاثوا فساداً في الأرض ، بل هؤلاء شكّلوا عصابات امتهنت القتل والذبح وارتكاب المجازر ،إنّهم مرضى مدفوعون بشهوات الإبادة ، إبادة الحياة بأشكالها كافة.(قال أستاذ متخصص في علم النفس)
" صدقت يا عزيزي ، فهذا الكيان اللقيط دشَّن احتلاله بمجازر عديدة ارتكبتها العصابات في فلسطين ولبنان."
همست بهذا ،وأخذت
أحدِّق إلى الصور ، صور الطلاب والأستاذة المحيطين بالتابوت وقد أداروا ظهورهم له.
رجال الشرطة هراواتهم مشرعة ،الأصفاد تقفل على حريَّة المعاصم، وهم ينقضُّون على المحتجين انقضاض الذئاب على فريسة، غير أنّها بدت ، مع العنف الشديد الذي تمارسه، عاجزةً عن تكميم تلك الأفواه التي تنبعث الحريّة منها عبيرًا وشذىً يضَّوَّعُ في النفوس الثائرة الرافضة ما ترتكبه تلك العصابات من جرائم تجويع وقتل الأبرياء ، وطردهم من أرضهم وديارهم وصولاً إلى إبادتهم .
-- نعم هم عاجزون عن سدّ طوفان تلك الأصوات العالية التي تصدح بها تلك الحناجر النديّة في فضاءات علميّة وقضائية وإنسانية في ذلك الغرب الذي أذكى النيران في ربوع هذا الشرق ، وفي غير مكان، ولا تزال نيرانه تحرق البشر والشجر والحجر.
- - ما بك صامت؟ إنّنا ننتظر رأيَك (قالها صديق)
- - هؤلاء الطلاب الشجعان مع أساتذتهم ينتفضون انتصارًا لغزَّة، ولأهلها.
إنَّهم يكشفون زيف ادعاءات دولهم بشعاراتٍ كاذبةٍ منها الديموقراطيّة وحقوق الإنسان وحقوق الطفل.
فأين طلابنا والأساتذة ؟ ما الذي يمنعهم من التعبير ؟ ورفض الإبادة المهولة الحاصلة؟
- - أنظر إلى التابوت الثاني الملاصق لهذا ترَ أين هم الذين ذكرتهم الآن ؟
- الأنظار مشدودة إلى التابوت الثاني المسجَّى في فناء جامعة بل في جامعات هذا الوطن العربي.
- الطوفان المبارك يدقّ أبواب ضمائر الطلّاب في الغرب فيقوم هؤلاء ، ويقضُّون مضاجع المسؤولين المتشدِّقين بمقولة الساميّة المسجّاة في التابوت الأوّل، فمتى ينتفض طلابنا في وجوه المطبِّعين والمكبَّلين باتفاقيّات سقطت، وعفَا عليها الزمن.
متى؟(قال ذلك طالب من كلية الفنون،بحسب ما عرّف نفسه والتأثُّر بادٍ على صفحة وجهه)
- أنت محقٌّ يا زميلي ، والأمر المحيّر هو أنّنا كنّا نتظاهر انتصاراً لأيّ مظلوم في الأرض، وبيروت شاهدةٌ، فمتى نستيقظ وننتفض، انتصاراً لحقِّنا في الحياة والعيش الكريم المستباح، ولأمننا المسلوب من قِبَلِ هذا الكيان الذي تفنّن في ارتكاب المجازر بحق الصامدين المتجذرين بالأرض، ولو كانوا في ظلِّ علم الأمم المتَّحدة . مجزرة قانا شاهدة؟
- -المهمّ الآن أنّ العديدين من اليهود المشاركين في الانتفاضة الطلابية يسقطون مقولة الساميّة هذه التي يحتمي الكيان وساسته وجيشه في ظلّها .
- - لقد توقّفتم طويلا أمام هذه اللوحة . فما هو رأيكم؟(قال الفنان ذلك مبتسمًا)
- - سقطت . فعلًا سقطت . سلمت يداك عزيزنا،(أجاب المشاهدون بصوت واحد)
- بيروت في 28/4/202