تعتمد الأقمار الصناعية المسؤولة عن تشغيل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في السيارات والهواتف الذكية على مئات الساعات الذرية، حيث يوجد حاليا حوالي 400 ساعة ذرية نشطة توفر تحديدا دقيقا للمواقع في حدود بضعة أمتار.
ومع ذلك، يسعى العلماء إلى تحسين دقة GPS بشكل كبير، مما سيفتح الباب أمام تطوير السيارات ذاتية القيادة، وأنظمة الملاحة، والمراقبة الجيولوجية بدقة أعلى بكثير مما هو ممكن اليوم.
يمكن تحقيق ذلك من خلال استبدال الساعات الذرية التقليدية في الأقمار الصناعية بنظيراتها البصرية، التي تعد أكثر تقدما ودقة، فبينما توفر الساعة الذرية التقليدية دقة تصل إلى ثانية واحدة خلال ملايين السنين، تتمتع الساعة الذرية البصرية بدقة تصل إلى ثانية واحدة خلال مليارات السنين.
دقة غير مسبوقة تصل إلى مستوى السنتيمتر
يقول مينغهاو تشي، أستاذ الهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب في جامعة بوردو:
"تتيح الساعات الذرية الحالية لأنظمة GPS تحقيق دقة تحديد موقع في حدود بضعة أمتار أما مع الساعات الذرية البصرية، فمن الممكن تحقيق دقة تصل إلى بضعة سنتيمترات فقط. هذا التطور سيحسن بشكل كبير استقلالية المركبات وجميع الأنظمة الإلكترونية المعتمدة على تحديد المواقع."
ولكن رغم دقتها الفائقة، فإن الساعات الذرية البصرية التقليدية تعاني من حجمها الكبير، حيث تشغل عدة أمتار مربعة في المختبر، مما يجعل تثبيتها في الأقمار الصناعية أمرًا غير عملي، ومع ذلك قد يتغير هذا الواقع قريبا بفضل تقنية جديدة طورها باحثون من جامعتي بوردو وتشالمرز للتكنولوجيا.
شريحة ميكروكومب لتصغير الساعات الذرية البصرية
تتميز الساعات الذرية البصرية التقليدية بتعقيدها، حيث تحتاج إلى أنظمة ليزر متخصصة ومكونات بصرية متقدمة، مما يجعل استخدامها في الهواتف الذكية أو الطائرات بدون طيار أو الأقمار الصناعية أمرًا صعبًا.
لحل هذه المشكلة، طور الباحثون أجهزة صغيرة تعرف باسم الميكروكومب (Microcombs)، وهي شرائح إلكترونية قادرة على توليد طيف من الترددات الضوئية المتساوية التباعد، تماما مثل أسنان المشط.
تعمل الساعات الذرية البصرية بترددات تصل إلى مئات التيراهيرتز (THz)، وهي أعلى من قدرة الدوائر الإلكترونية العادية على القياس. لكن ميزة الميكروكومب أنها تعمل على تقسيم هذه الترددات العالية إلى مستويات أقل يسهل التعامل معها إلكترونيًا.
علاوة على ذلك، يمكن ضبط أحد ترددات الميكروكومب ليتزامن مع الليزر، والذي يتم ضبطه بدوره وفقا لاهتزازات الساعة الذرية. ينتج عن ذلك مرجع زمني مستقر يمكن استخدامه لقياس الزمن بدقة فائقة، مما يسمح بتصغير حجم الساعات الذرية البصرية دون التأثير على دقتها.
يقول فيكتور توريس-كومباني، أحد مؤلفي الدراسة وأستاذ في جامعة تشالمرز:
"لحسن الحظ، يمكن لشرائح الميكروكومب أن تعمل كجسر بين الإشارات البصرية للساعة الذرية والترددات الراديوية المستخدمة لقياس اهتزازات الساعة، وبفضل حجمها الصغير، أصبح من الممكن تقليص حجم النظام الذري بشكل كبير مع الحفاظ على دقته الاستثنائية."
الحاجة إلى أكثر من ميكروكومب واحد
رغم أهمية الميكروكومب في تحسين دقة الساعات الذرية البصرية، إلا أن استخدام شريحة واحدة لم يكن كافيا لتحقيق النتائج المطلوبة. عند اختبار الشريحة، وجد الباحثون أنها غير قادرة بمفردها على تحويل الإشارات الزمنية فائقة السرعة إلى ترددات راديوية قابلة للقياس.
لحل هذه المشكلة، ابتكر الباحثون نظاما يعتمد على زوج من الميكروكومب، حيث يكون الفرق بين تردداتهما حوالي 20 جيجاهيرتز (GHz)، مما يسمح بإنشاء إشارة زمنية يمكن التقاطها إلكترونيًا واستخدامها لقياس التوقيت والموقع بدقة متناهية.
يقول كايي وو، الباحث الرئيسي في الدراسة وزميل أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة بوردو:
"اكتشفنا أن استخدام ميكروكومب واحد لم يكن كافيا، لكننا تمكنّا من التغلب على هذه العقبة من خلال الجمع بين اثنين من الميكروكومب، بفارق تردد بسيط يبلغ 20 جيجاهيرتز."
إنتاج واسع النطاق للساعات الذرية المصغرة
إلى جانب الميكروكومب، لا تزال الساعات الذرية البصرية بحاجة إلى مكونات أخرى، مثل المضخمات البصرية والمعدّلات الضوئية، ليتم تصغيرها بالكامل، لذا يركز البحث المستقبلي على دمج هذه العناصر في شريحة واحدة، مما سيفتح الباب أمام إنتاج واسع النطاق لهذه الأجهزة الزمنية فائقة الدقة، واستخدامها في الأقمار الصناعية وأجهزة GPS اليومية.
إذا نجح العلماء في تحقيق ذلك، فقد نشهد قريبا ثورة في دقة أنظمة تحديد المواقع، مما سيؤثر إيجابيًا على مجالات مثل التنقل الذاتي، والاتصالات، والمراقبة البيئية، والعديد من التطبيقات الأخرى.


