فلسطين بين اليسار واليمين
مقالات
فلسطين بين اليسار واليمين
11 تشرين الأول 2021 , 23:23 م
في ذروة الصراع المحتدم بين الرأسمالية في جهة والاشتراكية والشيوعية من جهة أخرى، تشكلت الأحزاب الأيديولوجية التي تدافع عن هذا الطرف أو ذاك وبرزت الحوارات والسجالات الايدولوجية والفلسفية ثم امتدت هذه ال

في ذروة الصراع المحتدم بين الرأسمالية في جهة والاشتراكية والشيوعية من جهة أخرى، تشكلت الأحزاب الأيديولوجية التي تدافع عن هذا الطرف أو ذاك وبرزت الحوارات والسجالات الايدولوجية والفلسفية ثم امتدت هذه الحوارات داخل المعسكر الواحد، لتتبنى نهجا وأسلوبا مغايرا داخل الفكر الايديولوجي الواحد.

إذا ما اخدنا الفكر الشيوعي نجد ان هناك الماركسية اللينينية والتروتسكية والماوية، وكلها نسبت الى منظريها وفلاسفتها واستولت على السلطة في بلاد عدة واخذت شكل الاحلاف مثل حلف وارسو.

امام هذا الصراع الفكري الأيديولوجي على مساحة العالم طفق المثقفون العرب في المشرق والمغرب، يبحثون عن أيديولوجية وفكر سياسي يخلصهم من حكم المستعمر الأجنبي ويحقق العدالة والمساواة للشعوب العربية، فمنهم من طرق باب الدين وأعلن الجهاد ضد المحتل ومنهم من شكل حركات تحرر وطني يشارك فيها كل أبناء الشعب بصرف النظر عن العرق والدين، وآخر شكل أحزابا يسارية وشيوعية اسوة بالآخرين، بمعنى آخر أحزاب دينية وقومية وشيوعية، كما تشكلت أحزاب سوفيتية فاشية على نمط فاشية الجنرال فرانكو في اسبانيا، وخير مثال على ذلك حزب الكتائب اللبناني  “The Falangist”

في سبعينيات القرن الماضي قام بعض المثقفين العرب بإسقاط فكر اليمين واليسار على التاريخ والحضارة الإسلاميين، ومن أكثر الكتب التي تم تداولها في تلك الفترة كتاب " اليسار واليمين في الإسلام" لمؤلفه أحمد عباس صالح، واستدلوا على ذلك من فكر الأمام علي بن ابي طالب ومواقف بعض الصحابة أمثال الصحابي أبو ذر الغفاري، وبرز بعض الشعراء مثل مطفر النواب ومعظم شعره عن العدل والمساواة والصراع بين الأثرياء والمستضعفين حيث يقول: 
ما زالت شورى التجار ترى عثمان خليفتها... 
ويرونك زعيم السوقية....
 لو جئت اليوم لحاربك
 الداعون اليك وسموك شيوعيا .....

و حين انقسم العالم الى معسكرين معسكر الدول الاشتراكية و على رأسه الاتحاد السوفياتي و ذراعه حلف وارسو، والمعسكر الرأسمالي وذراعه حلف الناتو، ودخل العالم في حرب باردة و سباق تسلح، في غمرة هذا الانقسام ظهرت حركات التحرر الوطني في اسيا وافريقيا وأمريكا الجنوبية ووقف المعسكر الاشتراكي معها سياسيا و تسليحيا ونالت كثير من البلدان استقلالها الوطني، ونظرا لظروفها الذاتية لم تنحاز الى أي من المعسكرين فتشكلت منظومة دول عدم الانحياز، كما أدى الى بروز مفكرين يدعون الى عدم الانحياز، وحاولوا اشتقاق ايدولوجية قومية، مثال ذلك في سبعينيات القرن المنصرم المفكر العربي المصري الدكتور عصمت سيف الدولة حيث الف كتابا بعنوان " نظرية الثورة العربية" 


هذه المقدمة البسيطة والمتواضعة هي توطئة للولوج الى قضية اليسار واليمين في فلسطين بعد ان وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى وافتضاح وعد بلفور المشؤوم، وانكشاف معاهدة سايكس – بيكو وقدوم أفواج المستوطنين. فهب الشعب الفلسطيني دفاعا عن وطنه ومقدساته، ونظرا لغياب فكر سياسي مواكب للمتغيرات العالمية لم يكن امام الحركة الوطنية الفلسطينية الا الفكر الديني والقيادات الدينية كما الحال في باقي ارجاء الوطن العربي حيث قام الحاج امين الحسيني وآل الحسيني بقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وطالبوا حكومة الانتداب بإلغاء وعد بلفور. وعلى اثر ذلك برزت القيادة المنافسة للتيار الحسيني بزعامة النشاشيبي، ونكاية بآل الحسيني دعوا الى مؤتمر ضم وجهاء وقيادات اقطاعية فلسطينية وكان اهم قرارات هذا المؤتمر مناشدة حكومة الانتداب بالتعجيل في تنفيذ وتطبيق وعد بلفور. بالتعبير السياسي شكل آل الحسيني اليسار الوطني فيما شكل ال النشاشيبي اليمين المفرط بالحقوق الوطنية وبقي الشعب الفلسطيني منقسما طيلة فترة الانتداب بين فريقين احلاهما متخلف وادنى من مستوى الصراع الوجودي والآخر انتهى امره و اختفى.

بعد قيام دولة الكيان الصهيوني على جزء من ارض فلسطين وتشريد مئات الآلاف بالعنف المسلح والمجازر خضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، فيما تم ضم الضفة الغربية الى إمارة شرق الأردن
    “Trans Jordan Emarits”

 ليشكلا معا المملكة الأردنية الهاشمية، واستقر اللاجئون في مخيمات داخل قطاع غزة والمملكة الأردنية الهاشمية بالإضافة الى لبنان و سوريا و العراق و مصر.
أحدثت نكبة فلسطين زلزال قويا في الفكر العربي،  “ The Arab Mind”  وانبرى المثقفون الفلسطينيون والعرب، وخاصة في دول الطوق لتحليل أسباب النكبة وعلى رأس هذه الأسباب خيانة وتواطؤ الأنظمة العربية، ووصلوا الى خلاصة ان التحرير يبدأ بالتخلص من الأنظمة وإقامة أنظمة وجيوش وطنية، وشهدت تلك الحقبة عدة انقلابات عسكرية والشعار الأساسي كان ( من أجل فلسطين ). وقد تبين لاحقا ان معظم هذه الانقلابات كانت تدار في مطابخ القوى الاستعمارية في صراعها على النفوذ، شهدت تلك الفترة صعود الأحزاب القومية التي تدعوا الى الوحدة العربية مثل حزب البعث العربي والقوميون العرب والشيوعيون، وقامت بريطانيا بتشجيع الأحزاب الدينية لمواجهة المد القومي واليساري وتبنت مجددا تنظيم الأخوان المسلمين الذي اسسته في مصر، ابان حكمها ليمتد في دول الطوق العربي ممولا من السعودية.

 كانت المخيمات الفلسطينية بشكل خاص والفلسطينيون في الضفة والقطاع مسرحا لأنشطة الأحزاب العربية بكل اطيافها، ونظرا للظروف الموضوعية في ذلك الوقت التي كان فيها المد القومي عاليا احتكر القوميون العرب (الناصريون والبعث) النشاط السياسي في الساحة الفلسطينية، وقد تنبهت قوى الرجعية العربية الى ذلك، فزجت بحزب الاخوان المسلمين للعمل على محاربة الفكر القومي وخاصة في الساحة الفلسطينية، ومن خلال الكفاح المسلح الذي بدأ في الاعداد له القوى الوطنية الفلسطينية وخاصة مصر والعمل الفدائي من القطاع، وقد لاحظنا ان حركة فتح ذات المنابت والأصول الإخوانية؛ كيف تقدمت الى الميدان بعلم و معرفة ودراية السعودية والأردن؛ كما هو مثبت بالوثائق و الاحداث، يكفي ان نشير الى ان الملك حسين كان على معرفة تامة بحركة فتح ومشروعها وعلاقتها بالإخوان عن طريق كامل الشريف  وشقيقه محمود الشريف حيث توليا مناصب وزارية في الإعلام والأوقاف في الأردن، ايضا الملك فيصل كان على معرفة تامة بما تخطط له حركة  فتح عن طريق زكي اليماني وزير النفط السعودي و خليل الوزير أبو جهاد. فاين هي السرية التي كانوا يتحدثون عنها؟
(المصدر صلاح خلف الفلسطيني بلا هوية).
ظلت قيادة الأخوان المسلمين مشرفة بشكل كامل على حركة فتح بوجود ثلاثة أعضاء تعينهم بنفسها.

بعد حرب حزيران ١٩٦٧ وهزيمة الجيوش العربية، افسحت الأنظمة الرجعية المجال للعمل الفدائي لامتصاص نقمة الجماهير العربية وخاصة حركة فتح، التي لا تشكل بعدا أيديولوجيا يتناقض مع الأنظمة  وجعلت من فتح بديلا عن منظمة التحرير الفلسطينية، ورغم خروج قيادة فتح من عباءة الاخوان المسلمين الا ان قيادتها ذات الأصول الاخوانية بقيت ملازمة لها وبحكم سلوكها الفكري و السياسي، وفي الوقت الذي نزل فيه القوميون العرب من خلال تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتبنيها الفكر الماركسي تمشيا مع الموضة الا انها بقيت بحكم فكرها القومي ظلت عاجزة عن التميز في التطبيق عن فتح، وخرج من حضن الجبهة الشعبية التنظيم الطفولي الذي عانى من مرض الطفولة اليساري
 (الجبهة الديموقراطية بقيادة المراهق السياسي نايف حواتمة) وببضع عشرات من المقاتلين رفع شعار لا سلطة الا سلطة المقاومة في الأردن ولقصر وعيه القومي واليساري لم يدرك بديهية واحدة في تراثنا العربي حيث قالت العرب: "لا يجتمع سيفان في غمد" وكانت دعوة للدولة ان يكون الغمد الوحيد لسيفها لا لسيوف المراهقين. 

حين اشتد عود الأنظمة العربية اخذت تسلط الضوء على الممارسات السلبية للفصائل الفلسطينية في الأردن الساحة الرئيسية للعمل الفلسطيني المسلح، وما أكثر تلك الممارسات، وكانت معارك أيلول ١٩٧٠ وما تلاها من معارك الأحراش وخروج الثورة الفلسطينية بكامل فصائلها من الأردن. لم يقدم اليمين الفلسطيني الذي كان يقود النضال على أي دراسة نقدية و مراجعة لما حدث فيما قامت الفصائل الأخرى على استحياء بعمل مراجعات ونقد لما حصل وفي المحصلة النهائية لا فوارق تذكر عن حركة فتح.

كان لبنان الساحة الوحيدة التي تواجدت على أرضها كل الفصائل الفلسطينية و استطاع اليمين الفلسطيني المهيمن على فتح من الإمساك بزمام الأمور سياسيا وعسكريا، ونتيجة للفكر الانهزامي الذي لا مصلحة له في ان تستمر الثورة حتى تبلغ نهايتها المنطقية للصراع في تحرير الأرض والإنسان، أقدمت حركة فتح على طرح البرنامج المرحلي وناولته للجبهة الديموقراطية كي تتبناه كطرح يساري، وتحملت كل الصدمات التي عارضت البرنامج، وبقي اليمين الأشد ذكاءا يراقب تلك المسرحية الى ان نضجت الظروف الذاتية والموضوعية لكي يصبح برنامج منظمة التحرير الفلسطينية بعد ان ازالت حركة فتح بالقوة الخشنة والقوة الناعمة كل المعارضين داخلها.


جاء الاجتياح الصهيوني للبنان وما ترتب عليه من خروج الثورة الى المنافي ليحرر اليمين من أي ضوابط أخلاقية و وطنية وتنظيمية، ليدخل في مشاريع التسوية دون رادع او محاسب، وكانت ثمرة ذلك اتفاقية أوسلو وبعد المعارضة الخجولة من الفصائل الا انها اخذت تتسابق على الدخول الى الضفة و القطاع مع حركة فتح مع اختلاف المبررات، وكانت المحصلة ان الجميع صار "اوسلويا" و ذهبت كل الفوارق الأيديولوجية والفكرية و اصبحوا بنعمة أوسلو اخوانا.
ثلاثة عقود من عمر العمل الفلسطيني المسلح وتعدد الفصائل لم يسجل أي فرز بين يمين و يسار، قد يكابر بعض الثوريين ويقول لك انهم يعارضون فتح على كل ممارساتها لكن معارضتهم كلسعات قراد الخيل والقراد لا يمكن ان يكون خيولاً او خيّالاً بل يبقى تحت الذيل.

تقدمت الحركات الإسلامية وخاصة الاخوان المسلمون للعمل على الساحة ممثلا بحركة حماس وقامت بعمليات بطولية داخل الكيان واخذت تسحب البساط من تحت كل الفصائل الاوسلوية وغيرها الى ان وصلت الى استلام السلطة في قطاع غزة، وحررتها بالقوة المسلحة من اتباع حركة فتح وانقسمت الساحة الفلسطينية الى سلطتين سلطة رام الله (السلطة/الجيتو) وسلطة حماس وكلاهما داخل حاوية أوسلو.

نظراً لقصر الوعي عند الانتلجنسيا الفلسطينية وعجزها عن استيلاد فكر ونهج بمستوى الصراع الوجودي مع الكيان وهو صراع صفري، اما نحن واما هم، نجد ان ما يجري الآن هو على أرضية أوسلو والحلول والمشاريع التسووية.
برزت حركة الجهاد الإسلامي كتنظيم جهادي مقاوم لا يعترف بأي حلول ولا يخوض الانتخابات العبثية التي تجري على أرضية أوسلو، هذا الفصيل الجهادي المقاوم نراه يعمل على مراكمة الإنجازات، ويحذر في الوقت نفسه من استغلال ما أنجزته المقاومة في قطاع غزة ومن الولوج في مشاريع التسوية على غرار السلطة في رام الله.
 
ان هذا الفصيل يقف على أرضية تحرير فلسطين من البحر الى النهر، وينسج تحالفات واعية مع قوى المقاومة في الأقليم، وإذا استمر على هذا النهج والموقف سيكون التنظيم الوحيد في الساحة الفلسطينية الذي يضع الجميع على يمينه، وسيكون هو اليسار الوحيد، وبناء على ذلك سيكون المستهدف الأول والأخير من قبل كل قوى اليمين بدءا من الفلسطيني وانتهاءً بالعربي والإقليمي.

بعد مضي قرن من الزمان على الصراع مع الكيان عدنا الى نقطة البداية حيث انطلق النضال من على أرضية دينية بقيادة الحج أمين الحسيني، وانتهينا بقيادة دينية ممثلة بحماس والجهاد الإسلامي.
قرن من الزمان ومئات آلاف من الشهداء والجرحى ومازال العقل الفلسطيني يراوح مكانه.

يا سعدك يا فلسطين....
 ويا فلسطين بشراكِ.....
 أبو عمار بأوسلو هناكِ....
 ومحمود عباس وعباس زكي اعطاكِ.. 
يا فلسطين بشراكِ ....

م. زياد أبو الرّجا

المصدر: موفع إضاءات الإخباري