لعل السؤال الأكثر ترددا في مواجهة من يعلن أنه شيوعي هو: هل تعتقد أن الشيوعية تصلح في عالم اليوم؟ طبعا سيجتهد كل شيوعي في استحضار كل معارفه وخبراته ليقنع السائل بأن الشيوعية صالحة وقادرة على تقديم الحلول اللازمة لمشاكل العالم، وكم يمكن أن تكون الشيوعية "جميلة" بعيون الرأسمالية. يغفل هذا الحوار حقيقة بسيطة مفادها أن دور الشيوعية وأهدافها لا تشتمل على حل مشاكل النظام الرأسمالي، بل هي نقيضه وتعمل على زواله. السؤال الذي يجب أن يُطرح كيف يبدو عالم اليوم بعيون الشيوعية؟ أو كيف سيكون شكل العالم الشيوعي بعد زوال الرأسمالية؟ لماذا نجد أن السؤال معكوسا يحقق الغرض؟ لأننا لا نسأل عن أهمية العدالة، بل عن شكل العالم دون العدالة. لا نسأل عن أهمية العيش الكريم للإنسان، ولكن عن شكل العالم عندما يتحول الإنسان إلى سلعة، يفقد كرامته أولا، ثم يفقد المتطلبات الأساسية لوجوده بالمعنى الفيزيائي. لم تقدم الشيوعية للعالم بضع مئات من عارضات الأزياء والفنانين والرياضيين الذين يتقاضون مليارات الدولارات كرواتب سنوية، في الوقت الذي يفقد فيه الملايين وظائفهم، وينتقلون إلى صفوف الجوعى والمدمنين. لقد سخرت الشيوعية كل مقدرات مجتمعاتها لبناء شبكة من الأنظمة الصحية والرياضية والتعليمية التي كفلت لمواطنيها حقوقهم في العمل والحياة. ألم يكنتدمير هذه المنظومات سببا في الكارثة التي يعيشها العالم اليوم في مواجهة فيروس كورونا؟ تحاول الرأسمالية الظهور بمظهر "النظام الذي يؤمن بنفسه"، رغم النقد الحاد الذي نقرأه في الكتب والمقالات الصادرة عن مثقفين في الدول الغربية، أو نشاهده على شاشات التلفزة من نقد حاد للأنظمة الرأسمالية، نقدٌ يصل في الكثير من الأحيان درجة السخرية.لكن هؤلاء جميعا يمارسون الرأسمالية في كل تفصيل يتعلق بحياتهم اليومية. هم في الحقيقة ليسوا أقل إيمانا بالرأسمالية وفضائلها من القادة السياسيين والاقتصاديين لهذا النظام، لذلك فهم لا يتوقفون عن سعيهم لجعلها تبدو بصورة "أفضل" من وجهة نظرهم. هؤلاء ينتقدون فشل النظام الاقتصادي، لكنهم لا يطرحون ولا يقبلون البديل. يكتفون بالإشارة إلى موضع الخلل والمطالبة بتصحيحه، ليعود النظام الاقتصادي الرأسمالي إلى العمل بشكل جيد. نفس الأمر ينطبق على نقدهم للسياسة الخارجية، وحال الديمقراطية. ما يطالب به هؤلاء هو العودة إلى القيم الرأسمالية الأصيلة، رأسمالية الآباء غير القابلة للتشكيك، ألم تصل بهم إلى كل هذا الرخاء؟ لا نستطيع القول أنهم يتجنبون طرح البديل، الشيوعية. الحقيقة أن هذا البديل ليس موجودا في عقولهم. نستطيع تخيل الحوار التالي مع سياسي أميركي على أحد البرامج الحوارية الأميركية: - الإعلامي: ألا تعتقد يا سيدي أن احتلال الجيش الأميركي للعراق وإسقاط دولته أدى إلى تفاقم الإرهاب وزيادة انتشاره عالميا. - - السياسي الأميركي (مبتسما): حسنا، عليك أن تفصل بين أمرين، هناك احتلال وإسقاط دولة وهذا ما قام به الجيش الأميركي، وهناك ارهاب انتشر في جميع أنحاء العالم وهذا ما قام به الإرهابيون. ألا تتعامل الرأسمالية مع العالم بهذا المنطق؟ تحتل قضية الهجرة والمهاجرين مركز الصدارة في الجدل السياسي في العالم الغربي. تكاد مواقف اليمين واليسار تتطابق بهذا الشأن. الخلاف على تفاصيل هنا وأخرى هناك فيما يتعلق بتفاصيل قوانين الهجرة، والجنسية. لا أحد، اليوم، يسأل لماذا يهاجر هؤلاء؟ في دراسة لمنظمة الهجرة العالمية، تقول أن الأسباب الاقتصادية كانت السبب الأهم للهجرة خلال العقد الأخير من القرن العشرين. اعتبارا من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تراجعت هذه الأسباب الاقتصادية، ليتقدم عليها سبب وحيد، وهو النجاة بالنفس من الموت. الحرب التي تشنها النظم الرأسمالية تحت شعار مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية، هي السبب الذي لا يناقشه أحد. لم تشن الشيوعية عبر تاريخها حربا عدوانية على أي شعب من الشعوب. حتى الروايتين التي يحلو لمعادي الشيوعية الاستشهاد بهما في كل نقاش؛ ربيع براغ، وأفغانستان، فقد جاءتا بناء على طلب تلك الدول، ولم يسجل التاريخ حركة نزوح مهمة من أي من الدولتين. في اللحظة التي تقرأ فيها هذا المقال، تخوض الرأسمالية خمسة حروب كبرى على الأقل، من العراق إلى أفغانستان إلى سوريا إلى اليمن إلى فنزويلا، ينتج عنها ملايين اللاجئين. في خمسينيات القرن الماضي كان المد الشيوعي يجتاح العالم، وحركات التحرر الوطني توجه الضربات المتتالية للاستعمار. تمثل رد الفعل الأول للرأسمالية بما عرف بالمكارثية، وهي سلسلة من الاتهامات بالشيوعية وجهها السيناتور جوزيف مكارثي إلى مجموعة من الشخصيات السياسية والثقافية والفنية، أدت إلى حرمانهم من أعمالهم، والزج ببعضهم في السجون. في العام 1954، تراجع الكونغرس الأميركي عن السياسة المكارثية، وحاكم جوزيف مكارثي وأدانه. واستبدل السياسة القمعية، بمنح العمال مجموعة من الحقوق بما فيها الاعترافات بنقاباتهم، وتحديد ساعات العمل، والحد الأدنى للأجور، في محاولة لشراء رضى العمال وإبعادهم عن التنظيمات اليسارية. أثارت هذه الميزات قلق أصحاب رؤوس المال، وهو ما عبرت عنه في حينه الروائية آيان راند في روايتها "أطلس يهز كتفيه" التي صدرت عام 1957. في الميثولوجيا اليونانية، كان الإله أطلس أحد العمالقة الذين هاجموا جبل أولومبوس، مما دعى زوس إلى معاقبته بحمل قبة السماء على كتفيه. بالنسبة للرأسمالية فإن من يحمل هذا النظام على أكتافه هم أصحاب رؤوس المال من أفراد وشركات. وتطرح الرواية سيناريو يقوم به أصحاب رؤوس المال بإعلان الإضراب عن العمل، احتجاجا على "الظلم" الذي يمثله نظام "الحصص العادلة" التي تعتمده السلطات الحاكمة. هذا الإضراب يقود إلى انهيار الاقتصاد، واحتراق منصات النفط، وتخريب المصانع، حتى تصل إلى مواجهة بين الحكومة "الديكتاتورية" والثوار "الرأسماليين" تنتهي بانتصار "الثوار" واستيلائهم على دار الإذاعة، حيث يعلنون عن تمهيد الطريق أمام جميع الناس للانخراط في النظام "الحر" الجديد. عادت الرأسمالية إلى نفس الرواية بعد الانهيار المالي عام 2008، وأصدرتها هوليوود في ثلاثة أجزاء، إبتداء من العام 2010. كما كتب ستيفن مور مقال في صحيفة "وول ستريت جورنال" في العام 2009 بعنوان "أطلس يهز كتفيه: من الخيال إلى الواقع بعد 52 سنة". في المقال ينصح الكاتب أعضاء الكونغرس ومسؤولي إدارة أوباما بقراءة رواية آيان راند، لأن ذلك سوف يساعد على تجاوز الأزمة المالية التي تواجهها الولايات المتحدة. اليوم وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي نجمت عن انتشار وباء كورونا، يهدد "أطلس" بهز كتفيه، ويضغط أصحاب رؤوس الأموال على السلطات السياسية لتخفيف قيود الحجر، وفتح المجتمعات للمزيد من التواصل الذي يعيد دورة المال إلى طبيعتها، وتناضل البنوك بشراسة لاقتطاع المزيد من أموال المُقترضين لتعويض خسائرها. على شاشات قنوات كبرى مثل CNN نشاهد صورة العالم بدون الشيوعية. المواطنون يتكدسون أمام المستشفيات ولا يجدون فرصة لتلقي العلاج سواء مرضى كورونا أو غيرهم، الملايين فقدوا وظائفهم وانتقلوا إلى صفوف العاطلين عن العمل، شبح الموت ما بين المجاعة والمرض يهدد شعوب الدول الفقيرة. في الوقت نفسه يستمر قصف أطفال اليمن، وتمويل الإرهاب في العراق وسوريا، ومحاولة غزو فنزويلا. عالم اليوم يحتاج الشيوعية كما لم يحتاجها عبر التاريخ، والفرصة مواتية للشيوعيين لطرح الحلول البديلة التي ستسقط قبة العالم عن كتفي أطلس.