كتب الأستاذ ميخائيل عوض: طهران التي سحرتني بشبابها وأناقتها، وتوثبها برغم الحصار..
مقالات
كتب الأستاذ ميخائيل عوض: طهران التي سحرتني بشبابها وأناقتها، وتوثبها برغم الحصار..
ميخائيل عوض
12 كانون الثاني 2022 , 23:34 م


لم يكن على جدول أعمالي في هذه الأيام الفارغة والمأزومة في لبنان، حيث نَعلكُ الساعات والأسابيع، بلا عمل أو جدوى ومنفعة..

ففي عصر يوم بارد ممل هاتفني د. يحي غدار يستمزجني زيارة لطهران، بمناسبة إحياء سنوية فارس المقاومة - شهيد القدس قاسم سليماني.

فالدعوة للمشاركة بالمناسبة، ولعقد اجتماعٍ للهيئة التنفيذية للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة، هنأته على الفرصة المتاحة للتجمع، وللدور الكبير الذي تراه فيه ايران، ولتكريم التجمع وشخص أمينه العام د.غدار، على ما بذله ونشاطه ومسيرته في دعم المقاومة واشهار ثقافتها وقضيتها، واستأذنته بعض الوقت لأقرر المشاركة من عدمها، فالظروف قاسية والاهتمامات كثيرة في ظروفنا المأزومة الى حد فقدان أبسط حاجات الحياة وأولوياتها، ثم حسمت، فالفرصة متاحة للتعرف على ايران من قرب، وبتماس مباشر، بعد فرض العقوبات والحصار غير المسبوق عليها، وللتثبت مما يقال ويثار عن أزماتها الكارثية، وجوعها، وافتقادها لأبسط الحاجات.

 المشاركون من لبنان، أو عبره، عدد محدود برغم أنّ أعضاء الهيئة التنفيذية للتجمع توافدوا الى طهران، من أركان الأرض الأربعة، ومن القارات السبع،  إنّ الحصار القاسي لإيران  فرض السفر لوفدنا من لبنان على دفعتين وبخطوط طيران مختلفة مع فترات انتظار قاتلة لطولها وثقلها في مطار دبي ومطار الدوحة.

ومذ حسمت المشاركة بالوفد، وذهني منشغل بحجم ما سنلقاه، من متاعب وفوضى وعدم انتظام للرحلة وجدول أعمالها، وللمعاناة المتوقعة تحت ضغط الدعاية التي تستهدف ايران وانماط عيش شعبها وفي زيارات  سابقة كانت الأخيرة في ٢٠١٧، عدت بانطباعات سلبية  لغياب التنظيم وافتقاد واضطراب جدول الأعمال.

وصلنا مطار طهران متعبين ننشد لحظة الراحة، وبين همومنا ألّا نجد أحداً في الانتظار، كما جرى معنا سابقاً والرهاب من تنكيل وتباطؤ اجراءت فحص وختم جوازاتنا ان كان المعني من دولة الاصلاحين كما سبق من المعاناة، ونحتسب ان الحقائب ستضيع في طريقها الينا.

◦ يستقبلك مطار طهران بخجل وشبه اعتذار، فأنواره خافتة والكثير من بواباته وأقسامه مطفأة، وعدد الطائرات والعاملين محدود، بالمقارنة مع عجقة مطار دبي، برغم الفارق الفلكي بين إيران ودبي، فتقع أولى المفاجأت بِيُسْرِ وسهولةِ الإجراءات، وابتسامات العاملين وحيويتهم، وكمّ الترحيب بالزائرين وباللغة العربية، وما إن أطللنا على الخارج، حتى وجدنا فِتياناً باسمين يصافحوننا بحرارة، ويرحبون بنا، ويجمعون الحقائب وينقلونها إلى الحافلة الحديثة الطراز المعدة بإتقان لنقلنا إلى الفندق، وهناك، وحالما وصلنا دعانا المضيفون الأنيقون والحيويون جداً، الى تناول القهوة والشاي والعصائر الطازجة، والى طاولةالطعام، مع عبارات الِاعتذار والتبرير وطلب المعذرة عن معاناة السفر الاضطرارية بنتيجة الحصار الجائر. .

المنطقي أن تزول الغُمّة، وان تُنسى معنااة الرحلة المرهقة، ونبدأ برحلة اكتشاف إيران المولودة من رحم الحصار.

وتتزاحم الاسئلة في ذهنك والدهشة تجتاحك؛  فالفندق خمسة نجوم معززة، والحياة العصرية واضحة وانتشار البيانو في كل الردهات وحيث جلست فالأرائك مريحة.

تدلف إليك نادلة مبتسمة، تلقي السلام وتسأل عن رغبتك من الطلبات،واللافت حجم التنوع في المشروبات، الباردة والساخنة والحلويات بأصنافها الكثيرة، وكذا تجد الكرم ووفرة، وتنوع الوجبات في بوفيه الترويقة والغداء والعشاء المزدحمة بعشرات الأصناف مما لذَّ وطاب،  فتلتفت، وتسأل صديقك الذي كان في باريس منذ أيام: هل طهران هذه محاصرة وجائعة، وينقصها الكثير؟؟؟

فيجيبك بحزم: إنّها أفضل من باريس واكثر شِبَعاً واناقة، والأهم أنّها مقتنعة بنفسها، وتعرف طريقها، وتصيغ مستقبلها على هواها وبما يناسبها، والمقارنة بباريس والعواصم الأوروبية والعالمية،  لم يكن دافعها الفندق والطعام والفرش والخدمة فحسب، بل نظافة الشوارع،وخدماتهاوالارصفة التي استدرجتنا لساعتين من المشي والتأمل يومياً، بمعالم الأبنية، وبحركة الناس واناقتهم فالكل مبتسم.

وتلفتك هندسة واجهات المحلات والمعروض فيها، من ثيابٍ واوانٍ ومفروشات وأغذية وأدوية وخلافها، وجلها من ماركات عالمية، أو توازيها جودة،وتصاميم  بلمسة فارسية رائعة، في التحف المطعّمةُبالفيروزوالكهرمان والمعادن النادرة التي تزخر بها إيران، وتجيد صقلها  وتصنيعها أيْدٍ ماهرةٌ وعقولٌ مبدعةٌوصابرة،بتقاليدَ مكتسبةٍ من مهنة صناعة السجاد العجمي، كما يلفتك تنوُّعُ محالِّ صناعةِ وبيعِ المأكولات الجاهزة ونظافتها، وأناقة معروضاتها، فترى صورة بيروت والدّاوْن تاون، أيام عِزِّها، وجمهرة الفتيات والفتيان، في مقاهي الرصيف، حيث يطول السهر حتى ساعات الفجر، وانت تسترق السمع، تسمع أغانِيَ وموسيقى راقصةً، بأصوات مطربين عربٍ  وفُرسٍ وأوربيين وأمريكان، تختلط بقهقهات فتياتٍ وفتيانٍ يمارسون حياتهم الطبيعية، وتشع من تصرفاتهم  الفرحة والأمل بالمستقبل والاطمئنان للغد.

ولن يشغلك البحث كثيراً، لتطّلع على حال المرأة في إيران، فستجدها شريكاً محورياً في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد أعطتها الثورة والدستور حقوقها ومكانتها، وعززت من احترامها، فهي شريك في مؤسسة العائلة،  فالزواج لا يعقد إلّا بموافقتها، وكذا الطلاق، وإنْ قرّر الزوج تعددالزوجات،فهذامشروط بموافقتها أمام القاضي وعلنا، ولها نصيبها من الإرث ، وحقوقها محفوظة بما حصّلت بجهدها وعملها،ولا تتفاجأ ان صادفتها تقودسيارة الأُجرة،أو آليّةً ثقيلةوحافلة.

وجمال المرأة الإيرانية موصوف، تظهره الأناقة والاهتمام، فحجم حضور المرأة في الحياة العامة، وما لها من حقوق وحرِّيَّاتٍ يجعلك تفترض أنّ المجتمع الايرانيّ مؤنث، فلا وجود للشادور، إلّا ما ندر، إذ تجده في البيئات المتدينة، وكلباس تقليديٍّ في مجتمعاتها، أمّا الحجاب فهو أقرب للزينة منه للتحجب.

وفي الشارع أو المقهى والحديقة والمطار، تجد فتاةً تحتضن شاباً وهما يتهامسان، بدفءٍ وحنانٍ، كأمر مُعاش.

نظافة ُطهران، وهندستُها المعماريةُ، وأناقةُ ابنيتها وتنظيمها، واتساعُ شوارعها والارصفة، وتخديمها المتقن، بما في ذلك الشوارع الخلفية، والحواري، وتمازج أجيالها وهندستها توثِّق لك أنّها عريقةٌ عتيقةٌ، ومخدّمة بإتقان، وتزداد شباباً لتناطح السماء بحثاً عن مكانتها تحت الشمس، ولم يُغْرِها، أو يقعدْها عن تشييد الأبنية والحدائق العصرية، أنّها تربّعت، في التصنيفات العالمية، كأجمل وأنظف رابع مدينة في العالم، يزينها بُرجُها ومُتحفُها العسكريّ، وشوامخُ مُجسَّماتِ صواريخها الحاملة للأقمار الصناعية والدقيقة الإصابة، للدفاع عن إيران وحلفائها.

وتنتشر مشافيها كالجامعات،وتصادفك أينما ذهبت، لِتُذَكِّرَك بالفتوحات العلمية والطبية التي حققها علماء إيران وخبراؤها، وتفوقهم في علوم الفيزياء والكيمياء والطب والهندسيات والأبحاث.

والأكثر أهمية ودلالة، أنّ جُلَّ علمائها والنوويين منهم، تحت سن السابعة والعشرين، وتلك ميزة ودلالة على ما ستكونه بعد سنوات .

فإن نظرت الى الوجوه، تنتابك موجة أملٍ ،وتجتاحك عاصفة الثقة، فكلها تشي بالثقة والفرح، وإنْ تأمّلت قامات الشباب والشابات، تجزم بأنّك أمام شعب شبعان،" لا يعاني من الجوع وفقدان الأساسيات"،وله القدرة على اقتناء وارتداء احدث الموديلات وأرقى أنواع المصنوعات، وفي الأيادي هواتف من ماركات عالمية، وطرازات حديثة، كهواتف الآي فون،والآي بّاد،و حواسيب الماك ومشتقاتها..

بيسر  وسهولة وبسرعات تنساب  الأنترنت، وتشعُّ الأنوار التي تضيء ليالي طهران، شوارعها والحواري، فتخالها تعرض عليك باقات من النور والأنترنت لتأخذها معك إلى بيروت ودمشق، لتبديد العتمة وانقطاعات الشبكات والكهرباء.

(فطهران تقوم على مساحة تزيد عن ال١١ الف كيلومتر مربع اي بمساحة لبنان، وعدد روادها نهاراً يزيد عن ٢٠ مليون، وسكانها الدائمون يربو عددهم عن العشرة ملابين،أي مايقارب ضعفي عدد سكان لبنان).

وبعد أيام من الزيارة، تحفزك الافكار والتساؤلات المزدحمة، لتسأل آخرين: ماذا يلفتك بهذه الزيارة؟ فتجمع الإجابات: إنّها طهران متألقة وشابة مطمئنة ليومها وغدها، لاينقصها شيء لتتربع على عرش العواصم، جمالاً وأناقة ونظافةً، وهمةً وتوقدا..

وأن تحمل السؤال إلى مضيفيك والمسؤولين، بمراتبهم المختلفة، عن سر تألُّقِ طهران وشبابِها، وما الجديد الذي غيَّرَ فيها،ويُقدِّمها على هذا النحو العصري والشبابي، يبتسم ويلتفت يميناً ويسارا، فلا يعرف السرَّ، لأنّه يعيشها يومياً، ولم يلاحظ ما لاحظتَه انت الزائر،َ بعد سنواتِ انقطاع، ويَعِدُكَ بأن يُدَقِّقَ ويبحث.

وتفيض الاسئلة، عندما تغادر طهران إلى كرمانَ الموصوفةِ بحق بعاصمة المقاومة الإسلامية، لعدد شهدائها، ولدورها في الثورة والحرس والحروب.

ومحافظة كرمان مساحتها ١٨١ الف كيلو متر مربع ... تخيل؛ تساوي مساحة سورية و١٨ مرة مساحة لبنان،ومصنفة على لائحة التراث العالمي، وبرغم أنّ جبالها الشاهقة جرداء، وجغرافيتها ومناخها صحراوي تفتقر الى الغطاء النباتي، إلّا أنّها تتربع على عرش تاريخ ايران وفارسيتها،والمحافظة الأكثر ثراءً وانتاجاً للمعادن الثمينة والفيروز والرخام والحديد، وما إنْ تهبط في مطارها الذي يبعد عن طهران ٨٠٠ كيلو متر،حتى تتلمس طيب الحياة والحيوية والنشاط العارم لأهلها، وعندما تجوب شوارعها العريضة وأرصفتها، وتنظر إلى هندستها وأبنيتها،فستراها توأم طهران وكل ما اجتمع وتحقق للعاصمة، يتوفر في المدن والحواضر الإيرانية، ثم تسوقك الرحلةالى مقبرةشهداء كرمان المتسعة والمحتضنة بشواهق جبالها، فتجدنفسك في غابةىمن الأشجار كواحةٍ في وسط الصحراء، بشوارع متسقة وساحات واسعة مخدّمه ومصانة، فقد قررت الثورة وقيادتها تكريم الشهداء، وتخديم قبورهم كما لو كانوا أحياء بل اكثر وفي عرفها هذا اقل الوفاء، وفي الطريق المزدحم بالناس الى قبر فارس المقاومة وشهيد القدس، سليماني، يستقبلك قادة الحرس والجيش المصطفِّين على الجانبين، بابتسامة وترحيب، وافتخار بالشهداء، وتكريم فائض لضيوفهم، وتعزف فرقة الشرف نشيدها، والقبضات على الصدور وبين الاضرحة تمر في ساحة الاحتفال فتجد ضريح سليماني محشوراً بينهم وشواهد قبورهم متساوية تماما، يميز قبر سليماني غلاف زجاجي، ليضيء عبارة"الجندي في جيش الولاية"، استشهد بتاريخ.. فقد أوصى بإلحاح ان يدفن بجوار الشهداء وان ينعى بصفته جندياً لا جنرالا، فكل شهيد يرتقي الى رتبة قائد باستشهاده بحسب عرفه ونهجه.

 وبعد ان تلقي التحية وتقرأ الفاتحة لروحه ولرفاقه، يصحبك المرافقون المهذبون الى المنصة وساحةالاحتفال وقد خصص لكل ضيف كرسي تربع بين قبور الشهداء، ولإتمام الاحتفال يعتلي المنبر قارئ يتلو آيات قرأنية بصوت رائع وبأداء مذهل ثم فرقة الفتيان متدرجة الاعمار تنشد بأبداع وبأصوات رائعة الاداء والنغم فيتلوا امين عام التجمع العالمي لدعم خيار المقاومة كلمته التي شدت انتباه الجميع بعباراتها المسبوكة ولغتها المحكمة ومضمونها العلمي والمنهجي فقد اعدت المنصة والاحتفال خصيصا للتجمع العالمي ووفده ولكلمة امينه العام.  ويصحبك المرافقون الى جامعة ازادي للمشاركة بمؤتمر علمي عن مدرسة القائد سليماني وفي الساحة وصولا الى القاعة الفسيحة والمجهزة بأحدث التجهيزات تستعرض نتاجات طلاب الجامعة وابدعاتهم وفتوحاتهم العلمية والصناعية والزراعية والانشائية وكما في منصة الاحتفال وفي المقبرة كذلك في قاعة المؤتمر الاتقان والتنظيم  والاستثمار بالوقت يلفتك ويحاكي الاجابة على اسئلتك.

من المؤتمر الى الغداء المتنوع الاصناف والوجبات والحلوى والمشاريب وبعدها تقودك القافلة الى منزل الشهيد سليماني الذي حوله في حياته وبإرادته ورغبته وبإشرافه الشخصي حيث توفر له الوقت الى مسجد وحسينية لأحياء المناسبات الدينية وقد اعتاد استقبال الناس في الصالة وهو واقف لساعات وقد احتل تمثال له ذات المكان بابتسامته الواثقة والحكيمة، وتسير بك القافلة مرة ثانية الى مقبرة الشهداء وقد اسدل الليل ستائره وعندما نصل تفاجئنا حشود بعشرات الالف تتقاطر من عدة شوارع الى المقبرة لإقامة مراسم العزاء الحسيني وعلى جانبي الطريق منصات ضيافة للشاي والقهوة والمشاريب والأطعمة فللشهيد القائد سليماني مكانة وقيمة تقارب ما للحسين والائمة من صفات، ومراسم المسيرات الحسينية في كرمان تدوم لخمسة عشر يوما ما ينبئك بان المقبرة ستكون يوما مرقدا تامه الملايين لتحي المناسبة ولتعظيم الشهداء والقادة.

يوم كرمان غنيا وثريا بحصاده وتعطر برفقة اعزاء  تقدمتهم السيدة الانيقة الاكاديمية والشابة الأستاذة مروة عثمان بهيبتها ومحياها وتوثبها وحضورها الذهني المتقد.

ويسوقك التفكير الى  المزيد من الاسئلة وللمزيد من التثبت من حقيقة ان ايران تحت الحصار اكثر اكتفاء واعرض ابتسامة واعمق تصميما على التمايز والبناء، وكشأن طهران كرمان والمدن والحواضر الايرانية.....

في رحاب مصلى طهران حيث امتدت المساحات المبنية والقبب المزركشة والساحات الواسعة وتتسع حدود المصلى لبيروت الادارية وربما ضعفها يلفتك حشد المعدات الثقيلة والرافعات لإتمام الاقسام التي مازالت قيد الانشاء والاكساء وتجيبك الذاكرة على سؤالك بالقول:  ان بلدا محاصرا وجائعا لا يشيد الابنية وينفق عليها ملايين الدولارات ففخامة الابنية بما فيها السكنية والخاصة دلالة على الثروة وتوفر الاموال وتعاظم الاشغال، وبينما بدا الرئيس رئيسي كلمته في الاحتفال التأبيني لسليماني يجلس بجانبك في الصفوف الخلفية لمنصة الضيوف رجل معتدل القامة متسق الجسد يرافقه حارسان ليستمع بإصغاء ودون ان يلفت النظر، فيقترب رفيقي في السفر د حسن جوني ويسر بأذني ان الجالس قربك هو وزير خارجية ايران الذي يشغل العالم بحنكته وادارته للتفاوض النووي فلا تستغرب هذه الالفة والتواضع عند المسؤولين وانت استعرضت قبل دقائق قادة الجيش والحرس الثوري الكبار مصطفين كالجنود والكشافة يرحبون بالضيوف ويرافقونهم الى مقاعدهم بكل تواضع وخشوع، وفي تصرفاتهم بعض سر طهران وشبابها الدائم لا تشيخ.

في المجمع الذي استضاف اجتماع الهيئة التنفيذية للتجمع ليوم كامل بعض سر التناسق والجدية والحرص على تكريم الشهداء فقد اختير ذات المبنى الذي فجر بقادة حزب الجمهورية بعد انتصار الثورة الاسلامية واودى بحياة العشرات من قادة وكوادر الثورة وقد تم ترميمه كقلعة ومزار وجامعة ومسجد وفي وسطه قبه لمقبرة جماعية للشهداء القادة ويبدو انها ليست مصادفة ان تاريخ استشهادهم على بعد ثلاثة ايام من تاريخ استشهاد سليماني ورفاقه فقد اختار المضيفون المكان والزمان لجلسات الهيئة التنفيذية بفطنه وذكاء.

وفي اليوم السابع للزيارة حيث كان الوعد بان يكون يوم الراحة والتسوق والتعرف عن قرب على الايرانيين المواطنين العادين في الاسواق  يفاجئك المنظمون على طاولة الافطار بان تجهزوا سريعا فلدينا موعد مع مستشار القائد وزير الخارجية الاسبق ولايتي صاحب الشهرة والذهن المتقد وتقودك القافلة الى شارع فلسطين حيث مجمع ابنية وسكن القائد ومكاتبه المحروسة جيدا والنظيفة كثيرا والاشجار باسقة تضلل الأمكنة، وفي حضرة المستشار تجري الحوارات المفتوحة بلا ضوابط لأربع ساعات متصلة، تنهل من خبرته ومعارفه وعلومه لتكتشف انه طبيب ومبدع ومدير اهم المشافي الجامعية وقد اعد وناقش اطروحات لتلاميذه على قدم كبير من العلمية والاهمية في مختلف الامراض، اشارة دالة على ما بلغته ايران في مجالات الطب وصناعة الادوية والعلاجات الحديثة وعلوم النانو وزرع الاعضاء ومعالجة الامراض المستعصية واستخدام النووي في المجالات الطبية والسلمية ومن مكتب ولايتي رحلة قصيرة الى مكتب امين فرع ايران للتجمع العالمي لدعم خيار المقاومة  ونائب الامين العام الدكتور الشيخ باراتي للاطلاع على المكتب والتعرف الى فريق العمل الذي نظم وقاد الاحتفالات في الذكرى الثانية لاستشهاد سليماني ولن تستغرب ان الشباب والرجال المنظمون والمرافقون هم من قادة ايران ويحتلون مواقع حساسة وهامة وقد تطوعوا لخدمة الضيوف وتنظيم زياراتهم والاهتمام بشؤونهم التفصيلية  وتلبية حاجاتهم وطلباتهم، وقبل ان تكتمل الضيافات الكريمة من كل الاصناف والاهم الحلويات التقليدية الايرانية يطلب منك الدكتور باراتي بتهذيب ان تخلع ساعتك وتفرغ جيوبك من اي معدن وتسلم هاتفك للمرافقين فنحن على موعد للقاء شخصية هامة والاجراءات الامنية مشدده.

تمخر الحافلات شوارع وحارات وازقة طهران وبعد حين تتسلق الجبل الشاهق لتعبر اول حاجز امني هو الوحيد الذي صادفنا في ايامنا السبعة في ايران، يسألني رفيقي في الرحلة د حسن جوني من تحسب سنلتقي  قلت الارجح انا ذاهبون الى احدى مدن الصواريخ في باطن الجبل ولحظة وصولنا وحيث انتصبت قامة شاهقة امام المبنى في استقبالنا نظرت الى حسن وقلت له ها نحن اما جبل الجبال الحاضنات لمدن الصواريخ يستقبلنا على مدخل المبنى بلطف وحميمية وابتسامة اسرة برغم ان العالم سيهتز ان اهتزت اصبعه او تلفظت شفتيه ببضع كلمات، وبقينا في حضرته ساعات طويلة يستمع الى مداخلاتنا ويجيب على الاسئلة ويزيد بطلب الضيافة بكرم حاتمي واكثر وفي الوداع يقف ليتصور مع كل فرد منا ويقبله ويشد على يده ويسلمه هدية قيمة جدا من صناعات الفيروز والنحاس الايراني ويصحبنا الى المدخل للوداع ويتسمر لمصافحتنا فردا فردا حتى غادرت الحافلة وليل طهران ساعتها مثلج وتكتسي ثوبها الابيض كعروس تحتفل بذكرى شهدائها القادة، فنهرع الى الفندق لتناول الطعام والى الغرف لإعداد الحقائب فموعد الطائرة اقترب وللوصل الى المطار نحتاج لساعة ونيف وبسرعة ١٢٠كلمتر وما فوق حالما تسمح عجقة شوارع طهران المكتظة بالسيارات والحافلات الخاصة وكلها موديلات حديثة وانيقة لا تنقصها الصيانة كالطرقات الطويلة والفسيحة والجسور المعلقة والمتعددة المسارات.

وبينما كنا نمضي ساعتين ليلا في شوارع طهران مشيا على الاقدام تريضا وتمتعا بمناخ طهران ولسعة بردها الناعمة  كان رفيقي د حسن جونية الخبير والاستاذ في القانون الدولي وصاحب المكانة والباع الطويلة في اختصاصه الثائر والمناضل الاممي خريج وشبه مواطن باريسي ويعرف بدقة تفاصيل وتواريخ العواصم العالمية والاوروبية التي زارها واقام بها لأشغاله والمؤتمرات العالمية التضامنية وبروحه المرحة وذاكرته الفطنة وفوضاه وحشريته وفضوله الطافح كان يشغلني بالتوقف امام المباني المشيدة وقيد الانشاء  على الطرازات الاوروبية وبهندسة فارسية ويقارنها بأبنية العواصم الاوروبية ويميل لمنح طهران الشهادة بما في ذلك تنظيم شوارعها وحدائقها وصفوف الاشجار الباسقة على جانبي الاسترادات والطرقات ترويها الاقنية المفتوحة التي تتدفق فيها مياه الثلج الدارجة من شمال طهران وجبالها المعتمرة قبعتها البيضاء، وقد اكثر الكلام عن طهران وعمرانها وهندستها والابتسامة المرسومة على وجوه اهلها وعابري طرقاتها  ولفطنته ومرح روحه لم يترك " شلعة" زمرة من الفتيات الجميلات المحتشدات في الشارع سعيا لمكان في احد مقاهي الارصفة العامرة في طهران الا وتحرش بهن وغازلهن وقهقه معهن، ومن النوادر الدالة التي زادت بمعرفتنا بطهران وسرها العجيب طرح السؤال على المارة حيث استفردنا بأحد:  كم سعر الدولار اليوم  بالمقارنة مع الريال والتومان لتجتمع الاجابة وتكشف عن حقيقة لم نكن تنبهنا لها فكل واحد منهم يقلب شفته ويصفن لثوان ويرد مبتسما ومستغربا سؤالنا لا اعرف وما حاجتي لأتابع سعر الدولار الذي لا احتاجه ولا احترمه ولا يعنيني فانا اقبض بالتومان  واشتري حاجاتي به وادفع فواتيري واسعار الخدمات والسلع وامورنا مؤمنه ولا نحتاج لاقتناء الدولار والعملات الاجنبية فمن احتاجها لسبب يذهب الى  الدولة والمصرف المركزي فيحصل عليها بسعر مدعوم وعليه استدرجتنا الذاكرة الى لبنان ووجود ١٢ سعر للدولار ولبنان يفاخر بقطاعه المصرفي ونموذجه للاقتصاد الحر والليبرالي والبلاد تفتقد الكهرباء والماء والشبكات وتيار المولدات يسعر بالدولار.. ونسال انفسنا هل اذهلتنا طهران لأنها مذهلة وتبطن اسرارها ام لأننا جئتنا من لبنان وقد نهب وافقر وجرى تعتيمه وتأزيم الحياة فيه ونفاذ واستحالة تامين ابسط الحاجات...

ومما يلفتك كثيرا ان نسبة المدخنين لا تجاوز ال١٠% برغم ان ايران تنتج اجود انواع التبغ ولا تحرم التدخين او تحرض ضده، والاهم والاعمق دلالة ان نسبة الالتزام بإجراءات الكورونا ١٠٠% فلن تصادف احدا لا يضع الكمامة فقد اصبت انا المدخن بانتكاسة فقد حملت كروزين من الدخان ولم انفق منها سوى علبة او علبتين خلال سبعة ايام فعدوا طهران تصيبك ومخالفتها تحرجك ... وفي كل الاحوال فتراجع المدخنين والالتزام الصارم بالإجراءات تدلل على حجم الثقة بالدولة ونفوذها واحترامها وبدرجة الوعي والانتظام المجتمعي وهذه ايضا واقعات ترد على حملات التضليل والافتراء التي تستهدف ايران.

فطهران المحاصرة تشع شبابا وتثق بنفسها وتؤمن بشعبها وتتوفر في محلاتها والسوبر ماركت  والصيدليات والاسواق  كل الحاجات ومولاتها الصغير منها بحجم نصف بيروت الادارية تزدحم فيها المواد والسلع من كل الانواع والاصناف والماركات كما شوارعها تعج بالسيارات والحافلات الخاصة ومخازنها مملؤة بالوقود ....

عدنا الى بيروت وظلمتها وخراب عمرانها وشوارعها وارصفتها وفقدان ابسط الحاجات، وكبر السؤال في أذهاننا: ما سر طهران تزداد شبابا وعمرانا وتألقا وهي محاصرة بينما تفتقر بيروت لأبسط حاجات الحياة لابتلائها بمنظومة فاسدة مافياوية لصوصية سرقت ماضيها وحاضرها ونهبت مستقبل ابنائها...

 ويحدثك البعض ويرهبك من ان تتحول بيروت الى شبيه طهران...!! فتقول في قرارة نفسك ( اللي بيعرف بيعرف واللي ما بيعرف بقول كف عدس.)..

فكفوا عن الكذب والترهيب والتهويل بالتضليل ليت بيروت تصير حارة في طهران العازمة على صناعة مستقبلها والاقليم على قيم الشهداء وتضحياتهم وبتهذيب وبساطة وكرم شعبها وقادتها الاجلاء..

وان صارت من حواري طهران  فستنعم بكهرباء ٢٤/٢٤ وبإنترنت عريض وسريع وبتنظيم هندسي ومدني متقن للسير وبالأرصفة والشوارع والحدائق الغناء  والحافلات والنقل السريع وتمتلئ المحلات والمخازن والمولات بما لذ وطاب وبأسعار يستطيعها اللبناني الذي افقر ونهبت امواله ومدخراته.. .. ويصير لكل طالب مقعد دراسي ولكل مريض سرير ولكل محتاج دواء رخيص واستشفاء مجاني....

حدثنا مضيفينا ومن التقيناهم من قادة في السياسة والعسكر والاستراتيجيات وفي الملف النووي والمفاوضات والحوارات الجارية مع السعودية والامارات  والثأر لسليماني وموعد تحرير القدس والصلاة خلف قادة المحور في كنيسة المهد والاقصى، وكانوا مقتنعين الى ابعد الحدود واستعرضوا الواقعات والاحداث المعاشة والدالة على ان زمن امريكا وإسرائيل وحلفهم اصبح في حالة الغروب المتسارع وان ايران جادة في العمل مع دول وامم الاقليم لإنتاج اقليمية حضارية عصرية تدار فيها العلاقات على المنافع والمشتركات والقيم الجامعة بعيدا عن إملاءات امريكا والناتو وابتلاءات الاستعمار والتقسيمات والحروب والفوضى.

فسر شباب وتالق  طهران وثقتها بنفسها واعتدادها بماضيها وحاضرها وسعيها الى المستقبل مشتق من فكر  ووعي وحكمة وتصميم قادتها الاحياء ومن مدرسة قادتها الشهداء واثقة من نفسها وقدراتها ساعية الى امتلاك مستقبلها بلا تردد او هوادة.

بالحق اشهد ان اهم دوافعي لزيارة طهران كانت رغبتي الجامحة بالتعرف على حال ايران تحت الحصار وتلمس اثر انحسار الحقبة الاسلامية والاسلام هو الحل، وعلى وقع انكشاف وافلاس ظاهرة الاخوان المسلمين ومخلفاتهم من السلفية المسلحة وفصائلها وانقلاب السعودية على وهابيتها وترويجها للإسلام الامريكي والليبرالي، والمنطقي ان الثورة الاسلامية الايرانية بشعاراتها السيادية وانجازاتها الاجتماعية وتبنيها قضية فلسطين والتزامها تحرير القدس قد اسهمت نوعيا بتامين شروط هيمنة الحقبة الاسلامية وتصعيد ظواهرها ومنتجاتها وبانحسار الاسلام السياسي والمسلح السني المنطقي ايضا  ان تفقد ايران ضدها النوعي، ويضاف ان ايران قد شهدت في السنوات المنصرمة  صراعات علنية بين التيار الاصلاحي المتأمرك والمتأورب والكتلة الصلبة في الثورة الاسلامية والمؤسسة الدينية والدولة والمجتمع الممثلة بالحرس والقائد، الامر الذي قد يتسبب بزيادة التشققات والتعطيل المتبادل وتراجع دور الدولة والمؤسسات لانشغالها بالصراعات والتخندق المتضاد، ما يوفر ظروفا مؤاتيه للمؤامرات والثورات الملونة ولفوضى الربيع العربي الذي تراهن وتعمل عليه امريكا وحلفائها لتفكيك واسقاط ايران.

وما خلصت اليه من تحليل ونتائج وبناء على الواقعات المعاشة والملموسة فايران التي استثمرت بالحصار وعززت الاقتصاد المقاوم والاعتماد على الذات وتامين حاجاتها وقد حسمت اشرعتها شرقا وتعاقدت مع اوراسيا واصبحت كامل العضوية في منظمة شنغهاي وتوحدت دولتها وكتلتها الحاكمة وحسمت الصراعات الداخلية بانتخاب رئيسي رئيسا لها فعزمت على انتزاع دورها ومكانتها واكملت عدتها للمواجهة وللحروب ان فرضت عليها تجدد شبابها وتتوحد اردتها لتعزيز خياراتها وصناعة نموذجها ومستقبلها على قيمها وخيارتها هي لتتمكن وتسود وربما يكون هذا بعض جواب على سؤالي الابتدائي عن سر طهران وسبب تألقها وتجديد شبابها.

و ما لمسته وشاهدته، وما خرجت به من انطباعات اكدت لي ان ايران وثورتها الاسلامية والتزاماتها مختلفة جوهريا عن نماذج الاسلام السياسي التي عاصرت تجربتها، وليست محكومة بنفس اليات الافول والانهيار التي تعانيها حركة الاخوان المسلمين والوهابية والسلفية والاسلام السني المسلح وتضرب اخر دولها "تركيا" الازمة الانهيارية وتعصف بها.  

فتحية حب واحترام لطهران ولايران وكل الشكر لمن دعانا واهتم ونظم واجاد التكريم والاحتضان.

وقد توفرت لي فرصة اعتلاء منبر جامعة ازاد في المؤتمر العلمي لمدرسة نموذج ونهج قاسم سليماني وقلت العبارة التالية:

لروح الشهيد القائد الجهادي والاممي قاسم سليماني...

روحك نجمة الصبح .... دمك درب النجوم والثريا ...

تنير طريقنا للقدس قبلة جهادك ومبتغى تضحيات امتنا..

وعدنا ... وعهدنا ... ان نقرا الفاتحة لروحك ولرفاقك في كنيسة المهد حيث ولد السيد المسيح وقدسنا يا فارس المقاومة وشهيد القدس عاصمة ابدية لفلسطين الحرة السيدة المطهرة من رجس الصهاينة وربهم الشيطان الاكبر امريكا.

فاستشهادك بشارة النصر  الاتي...

على نهجك  .... سيبقى

شعارنا الى الأمام ..سننتصر..

المصدر: موقع إضاءات الإخباري