الثقافة الفرنسية كانت حلم كل المثقفين...
الفلسفة الألمانية كانت هدف معظم الفلاسفة... رغم حاجز اللغة الألمانية...
عندما وطأت قدماي ارض فرنسا، كدت اطير فرحا لاني وصلت إلى أرض كومونة باريس...
حرية... مساواة... أخوة..
كنت امشي في الشوارع متأملا مدى جمال الهندسة المعمارية..
بعد فرنسا، وصلت إلى ألمانيا حيث كل كنيسة، في كل ضيعة امر فيها، لا اجد سوى قمة الجمال المعماري الذي أنتجه عصر النهضة...
نفس الأمر كان يحدث من غرب القارة إلى وسطها إلى شرقها...
يوم وصلت موسكو، وتجولت في الساحة الحمراء، أحسست بأن أسطر كتاب عشرة أيام هزت العالم عن الثورة الروسية، باتت صورا جميلة في مخيلتي...
لا شيء يدوم...
الإنسان قادر دوما على تدمير الاشياء الجميلة...
بدأت الصدمة، حين قررت زيارة مدينة لينينغراد...
سألني صديق بعد عودتي إلى موسكو عن جمال هذه المدينة...
كانت ردة فعلي تلقائية...
أجبت بأن تحويل سانت بيترسبورغ إلى لينينغراد كان جريمة...
لقد بنى القيصر بطرس الأكبر، أو بطرس الاول كما يحب الروس تسميته تلك المدينة فوق أراض تحيط بها المستنقعات...
كان السويديون والفايكنغ وقبائل الشمال يغيرون بين الحين والحين على ثغور الإمبراطورية الروسية...
وجد بطرس الأكبر أن الروس لن يقاتلوا ويدافعوا كما يجب عن مستنقعات، لكنهم سوف يدافعون بكل تأكيد عن مدنهم...
لذلك قرر أن يبني سانت بيترسبورغ على تلك الثغور...
رغم تقديري الكبير لقائد الثورة البلشفية، إلا أني لم استطع هضم ان يستولي البلاشفة على تاريخ بطرس الأكبر ويجعلوا من هذا ايقونة لهم...
أساساً، كانت المدينة مزيج من ثقافتين معماريتين على النقيض تماما احداهما للأخرى...
من جهة، جمال ما بناه القيصر بطرس الأكبر... ومن بعده الامبراطورة كاترين الثانية...
ومن جهة ثانية، بشاعة العمارة البلشفية الجامدة المتكررة التي لا تؤمن أصلاً بالفن البرجوازي...
إذا كان عصر النهضة قد أعطى الحضارة الأوروبية ذلك الجمال الذي تجلى في تلك العمارة الفائقة الجمال...
فإن الثورة الصناعية انتجت ضحالة ثقافة تجلت في مكعبات الحجارة التي انتشرت في كل أوروبا...
كثيرا ما استطاعت أوروبا اسر افئدة الناس بجمال عمرانها...
وكثيرا ما أخفى هذا الجمال العمراني بشاعة الفكر الاستعماري الأوروبي الذي فتك بكل الاقوام على كوكب الأرض...
لقد كان البريطانيون اول من استعمل الحرب الجرثومية حين كانوا ينشرون جراثيم الجدري والحصبة على البلاد التي يستعمرونها، سواء في أميركا أو استراليا أو نيوزيلندا، وهو ما أدى بأن تفتك الأمراض بأهل البلاد الأصليين ليتسنى للبريطانيين وضع اليد عليها ونهب خيراتها...
كما كان الألمان اول من ابتكر الحرب الكيميائية، عندما استعملوا غاز الخردل في الحرب العالمية الأولى...
أما الاميركيون، فقد فاقوا الأوروبيين بشاعة حين خاضوا حروبا جرثومية وكيماوية ونووية في كل الاصقاع دون أن يرف لهم جفن...
عندما سالتني معلمة اللغة الألمانية إذا كان يوجد في لبنان عنصرية، قفزت إلى مخيلتي صور التعامل مع العامل السوري قبل حتى أن يصبح نازحا، واللاجئ الفلسطيني والعمالة الأجنبية التي يسلمها اللبنانيون حضانة أولادهم ثم يعاملون هرلاء، معاملة العبيد...
أجبتها يومها أن العنصرية المنتشرة في أوروبا وألمانيا منتشرة عندنا أيضا لكن مع فارق بسيط...
القوانين الألمانية التي تحاول أن تمنع العنصرية موجودة في الدستور الألماني، وحتى في المراسيم الميثاقية...
أما في لبنان، فلا وجود لقوانين تحمي حتى من ممارسة العنصرية بين الفئات اللبنانية ذاتها...
اليوم لم اعد احلم بزيارة ليوبليانا، أو براغ، أو براتيسلافا...
لم اعد ارى جمالا في العمارة التي تحوي كل ذلك الانحطاط الأخلاقي الأوروبي وكره هؤلاء الناس للآخر، أياََ يكن هذا الآخر...
بعد الاسلاموفوبيا، ها هي الروسوفوبيا في أحقر صورها الإنسانية...
ليست تلك الآفة حكرا على الطبقات الحاكمة؛.. لقد استطاعت السوقية أن تنشر هذا القرف الى كل الطبقات في المجتمعات الأوروبية...
النازي الذي كان نذلا، في الحرب العالمية الثانية، صار بطلا في أوكرانيا...
البولوني القذر لم يعد حفيد الحضارة السلافية، بل تحول إلى بوق الكراهية ضد اجداده من السلاف، بعد أن أرانا في بغداد بمعية الأميركيين والبريطانيين والاوكرانيين طبعا، إلى أي مدى يمكن أن تصل حقارة الإنسان...
فجأة لم يعد المرء يريد زيارة تلك الاصقاع...
بدل العمارة الجميلة، صار المرء يرى النفسية الموبوءة، والخسيسة...
في أوروبا نجح بوتين في إظهار مدى بشاعة هذا الغرب... وبشاعة اجمل عماراته... وعمرانه...
لكن بوتين الذي صبر كثيرا، تحرك ضد الموت الزاحف على روسيا من كل صوب...
تحرك وجعلنا لا نرى في أوروبا أكثر من مصاص دماء لا يشبع مهما كثرت الدماء...
ديموقراطية بريطانيا التي تجلت في فلسطين وروديسيا وجنوب أفريقيا...
ديمقراطية فرنسا في الجزائر...
ديموقراطية ايطاليا في ليبيا...
ديموقراطيات قائمة على جماجم الشعوب التى تم افناؤها...
فجأة، وجدت نفسي لم اعد اريد زيارة اوروبا ولا حتى التمتع بجمال عمرانها...
اردت لوهلة الالتفات شرقاً...
فإذا كل جمال الشرق قد صار اصناما تباع في سوق النخاسة الدولي...
اجتمع في النقب مجموعة من الصعاليك...
بل بات بعض هؤلاء يدعون داعش والقاعدة للعودة إلى سوريا والعراق ولبنان...
على الأقل بوتين تحرك وحرك جيوشا في سبيل حماية ما تبقى من الروس في أوكرانيا...
أما اقزام العرب فقد هرعوا إلى النقب، يزايدون على بني صهيون في فكر الكراهية لذواتهم، وأقوامهم...
إذا كان الأوروبيون تركوا شيئا من العمارة الجميلة، فإن اقزام العرب وزواحفهم، باتوا ينتظرون رضى الأميركي عنهم عبر كره شعوبهم وعاداتهم وتاريخهم...
أما من بوتين في هذا الشرق...؟