أنا الرابح من هجرةِِ المسيحيين.
كلّ من هاجرَ منهم، يأتي إليَّ مع مجموعة كتبه التي لها أهميتها عنده، ليعطيني إياها وهو عارفٌ أنني سأضمّها إلى مكتبتي، وأضع في فهرسها أنها هدية من فلان.
وعندما أقف أمام رفوف الكتبِ وأنا أمسك فنجان قهوتي، تتراقص أمامي صور الذين هاجروا وهم يودِّعوني ويعطوني كتبهم.
أتخيل صورَ الذن هاجروا وبقيت كتبهم في حلب.
كم لهذه الكتب من ذكريات، يوم اشتروها وعندما قرأوها.
كم من فناجين القهوة تراقصت بين أصابعهم وهم يقرأوا هذه الكتب؟
كم ليلة سهروا وهم يَتصفّحون ويُسابقون الأسطر؟ وكم وَضعوا علاماتٍ على هوامش هذه الكتبِ؟
يناديني كتابٌ منهم، فأُخرجهُ وأتصفحه وأتذكر صاحبه وكيف أعطاني عدة كتبٍ كأنه يتخلّى عن أطفاله.
أُقلِّب صفحات الكتاب فأسمع أنيناً كأنه يشكو تخلّي صاحبه عنه.
أُعِيدُ الكتاب إلى مكانه ثم أجلس على طاولتي وأتذكر كلامهم:
- "نحن نعرف أننا لن نعود ولن نلتقي، ونحن في عمرِنا الذي تجاوز الستين نعيش الغربة بانتظار الموت"
- "نعيش على الذكريات الجميلة ونتذكر حتى التفاصيل الصغيرة التي كنّا لا نعيرها انتباهاً"
- "حتى حنفيات مدرسة الطفولة نتذكّرها، اللوح والطباشير، وجرس الفرصة والباحات، وحتى نبرة صوت الأستاذ في الصف نستعيدها ونبتسم".
كل هذه الكلمات سمعتها من الذين لم يبقَ بيننا سوى هذا الخليوي الذي يربطنا بهم.
أحدِّق في مكتبتي وتجول روحي بين رفوفها، فأنا أحمل بعض ذكريات من هاجروا.
أنا حارس كتبكم وذكرياتها ووصفحاتها وأحرفها وحركات الفتحة والضمّة والتنوين فيها.
لقد هاجرتم وأسرتموني هنا، فلِمن أترك كتبكم وانا أحرسها؟
أترك فنجان قهوتي على الطاولة وأغادر مكتبي علّني أستنشق بعض الحرية.
اللهم اشهد اني بلغت