شغلتني كقومي عربي أولا وباحث ثانيا تلك الأحداث الدامية التي شهدتها الساحة العربية الليبية منذ مطلع العام 2011 وحتى الآن, لذلك ومنذ انطلاق موجة الربيع العربي المزعوم في تونس ثم مصر ثم اليمن ثم ليبيا وأخيرا سورية, كنت من المتابعين بدقة للأحداث وكان القلق والخوف يمتزج بالريبة والشك فيما يحدث, لذلك لم تنزلق أقدامي مع من اعتبرها منذ اللحظة الأولى ثورة سواء من القوميين أو الباحثين, وإذا كان هناك عذرا للقوميين المتحمسين للتغيير, فإن ذلك لا يمكن أن يكون مسموحا به للباحثين خاصة في علمي الاجتماع والسياسة, ذلك لأن الباحثين لا يجب أن تأخذهم العاطفة لذلك تغلبت عقلية الباحث عندي على عاطفة القومي الحالم بالتغيير والمتطلع لوطن عربي موحد تحت راية المشروع القومي العروبي المقاوم, ومنذ اللحظة الأولى لزوال المفاجأة بدأت في التفكير في لحظة الانفجار المشتركة والشعارات المتطابقة وأساليب التصعيد المتشابهة, والنتائج التي يمكن أن يفض إليها هذا الحراك الجماهيري.
وبالطبع كانت ليبيا العربية واحدة من هذه الدول الخمس التي كانت محط اهتمامي البحثي, وبعد أيام قليلة كنت قد وضعت يدي على الدوافع الرئيسية للحراك الجماهيري غير المبرر في الحالة الليبية وهو المؤامرة الخارجية, فقد كان مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد يستهدف ليبيا العربية ضمن مجموعة الجمهوريات المستهدفة, وما زاد من قلقي على ليبيا أنها أولا واحدة من الدول العربية ذات التوجه القومي العربي, وثانيا هى دولة متاخمة لمصر وبالتالي عدم استقرارها يعني تهديدا مباشرا للأمن القومي المصري, وما أكد رؤيتي المبدئية هو تدخل حلف الناتو في ليبيا وبقوة حيث قصفت ليبيا بوحشية لمدة ثمانية أشهر كاملة حتى تمكنوا من إعلان سقوطها باغتيال قائدها الشهيد معمر القذافي الذي فضل المقاومة والاستشهاد على الخضوع والخنوع والاستسلام, وفي هذه الأثناء كنت أتواصل مع أصدقائي الليبيين من المثقفين والسياسيين ونحاول تفسير ما يحدث, وبعد مرور عدة سنوات تمكنت من القيام بدراسة علمية اعتمدت على منهجية دراسة الحالة لبعض المثقفين الليبيين أكدت نتائجها وجهة نظري المبدئية حيث أكدت أن ما حدث هو مؤامرة خارجية استخدمت بعض القوى والعناصر الداخلية, وتجسدت أهم مظاهر مرودوها الاجتماعي في هدم البناء الاجتماعي للمجتمع الليبي, وانتشار الفوضى, ومردودها الاقتصادي في فقدان القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية للموطنين, وسرقة ونهب ثروات الشعب, والمردود السياسي في تدمير مؤسسات الدولة, وانتشار الجماعات التكفيرية الإرهابية, وتفشي فوضى السلاح, وهذه النتائج جعلتنا نؤكد وبقوة ووفق القرائن العلمية أن الحراك الجماهيري في ليبيا العربية أبعد ما يكون عن الثورة من حيث دوافع نشأتها, والقوى المحركة لها, ومردودها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي, فالثورة وفقا لرؤيتنا هي ذلك " الحراك الجماهيري الذي يحدث تغييرا جذريا ايجابيا في بنية المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية " أما ما حدث في ليبيا فهو تدمير كامل لبنية المجتمع الليبي.
وعبر سنوات الأزمة كنت أتابع الأحداث والتطورات وأبحث في غمار ذلك عن طريق للخروج من ذلك التيه والدوامة التي غرقت فيها ليبيا العربية, وكانت شلالات الدم وفوضى السلاح وتعدد القوى الخارجية المتكالبة على نهب ثروات الشعب الليبي تؤكد كل يوم أن ليبيا ذاهبة إلى ما أراد لها العدو الأمريكي من تقسيم وتفتيت, وأن كل المحاولات الوهمية التي تقوم بها الأمم المتحدة لا يمكن أن تسفر عن نتيجة ايجابية لعودة ليبيا إلى حالة الاستقرار التي كانت تعيشها قبل العام 2011 خاصة وأن الأمم المتحدة كانت ألعوبة في يد العدو الأمريكي حيث انتزع منها قرار بغزو الناتو لليبيا, كما حدث ذلك أيضا وللأسف الشديد مع الجامعة العربية مسلوبة الإرادة, وفي مطلع العام 2015 وبعد خروج مصر من النفق المظلم لمؤامرة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد والتي كانت مصر تمثل فيها الجائزة الكبرى, زارني في مصر الصديق القومي العربي الدكتور عبد الهادي الحويج وكان وقتها يقيم في المغرب, وجاء الرجل وهو يحمل مشروع لإنقاذ ليبيا وكان يحمل بين يديه أوراق بتأسيس حركة المستقبل الليبية وبدأنا نتواصل مع كل الفرقاء الليبيين بالقاهرة القابلين للحوار وعقدنا جلسات مطولة للنقاش للبحث عن طريق لإنهاء الأزمة والخروج من التيه, وتعددت الزيارات وأصبحت القاهرة أحد المحطات الرئيسية التي يستريح بها عبد الهادي الحويج قبل عودته إلى ليبيا, وفي كل زيارة للقاهرة كان الرجل يبهرني بقراءته الواعية للمشهد الليبي ولما لا فهو إلى جانب حصوله على درجة الدكتوراه في القانون الدولي فهو حاصل على ماجستير في علم الاجتماع وهو ابن المجتمع القبلي المتفاعل مع كل مكوناته ويدرك كل خصائصه ويعلم جيدا مميزاته وسلبياته, وفي أحد زيارته المبكرة طرح فكرة المصالحة الوطنية الشاملة كمدخل لإنهاء الأزمة.
وفي منتصف العام 2018 بزغ نجم حركة المستقبل الليبية التي رفعت شعار " حوار – سلام – تنمية " كما اعتمدت اللون الترابي كلون أساسي لشعار الحركة إيمانا بأهمية الوطن وتراب الوطن اللذين من أجلهما يجب أن يتنازل الجميع عن الانا ويكون الوطن هو الهدف الذي يجب المحافظة عليه, وأكدت الحركة منذ اللحظة الأولى أنها " لا تعمل لمصلحة فرد أو جماعة أو قبيلة أو أجندة خارجية, بل تؤمن أن ليبيا لكل الليبيين الذين دفعوا ضريبة غالية منذ بداية الأزمة " وأكدت أيضا " أنها حركة سياسية مدنية تؤمن بالعدالة الاجتماعية, والحريات العامة, وحقوق الانسان, والمساواة بين الجنسين, وأن مستقبل ليبيا يحدده الليبيين وحدهم عبر مصالحة وطنية شاملة, وجمع ونزع السلاح, وسيادة دولة القانون والمواطنة والمؤسسات ", وهذه المبادئ الحاكمة لحركة المستقبل هي ثوابت لا يمكن التنازل عنها بأي شكل من الأشكال, وأن أي جهة أو أي تيار يؤمن بالعنف أو يدعو له لا يمكن أن تتفق معه الحركة تحت أي مسمى أو أي إطار.
وفي فبراير 2019 تم اختيار عبد الهادي الحويج رئيس حركة المستقبل الليبية وزيرا للخارجية ضمن الحكومة المؤقتة وتفاءلنا كثيرا أن يأتي رجل قومي عربي ضمن حكومة تسعى لإخراج ليبيا من عثراتها, واستمرت جهود الرجل في الدعوة لمشروع المصالحة الوطنية الشاملة على الرغم من أنه أحد أولياء الدم, وشاركت معه في هذه الأثناء في مؤتمر تحت عنوان " المصالحة الوطنية الليبية .. أي مصالحة نريد ؟ ", ومن خلال هذا المؤتمر طرحت خارطة الطريق التي أراها حتمية لإنهاء الأزمة الليبية والخروج من التيه وتتلخص في ثلاثة خطوات هي ( مصالحة وطنية شاملة – تكوين جيش وطني موحد لمواجهة المليشيات المسلحة وجمع السلاح – بناء مؤسسات الدولة وعقد الانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية ), وعندما خرج عبد الهادي الحويج من الوزارة في مارس 2021 لخوض الانتخابات الرئاسية الليبية توقعت عدم اكتمالها وهو ما تحقق لمخالفاتها مسار خارطة الطريق التي رسمتها, عاد عبد الهادي الحويج يعمل من جديد ضمن حركة المستقبل الليبية التي تؤمن بأن الخطوة الأولى لإنهاء الأزمة والخروج من التيه هو عقد المصالحة الوطنية الشاملة, وهو ما يجعلنا ندعو كل الفرقاء الليبيين بالتوحد خلف هذه الدعوة المخلصة, اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم/ د. محمد سيد أحمد