انطلق قطار (اتفاق إبراهام) في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في آب /أغسطس 2020، وبدأ بتوقيع اتفاق سلام مقابل السلام وفق رؤية بنيامين نتنياهو بين كيان الاحتلال الصهيوني والإمارات العربية المتحدة، لتنخرط وتوقع على الاتفاق في ما بعد كلّ من البحرين والسودان والمغرب، مع التمهيد والعمل وفق قادة كيانج الاحتلال الصهيوني لانضمام السعودية، وتوسيع هذا الحلف ليضمّ الهند، وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني في شرق ووسط آسيا باتجاه اندماج كيان الاحتلال الصهيوني في المحيط العربي والإقليم وفق رؤية شيمون بيريز، لتتعثر هذه الاتفاقيات وتصطدم بمجموعة من الأحداث والتغيّرات الدراماتيكية على مستوى المنطقة والإقليم والعالم…
فقد شكل توقيت وطريقة انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في آب /أغسطس 2021 صدمة لحلفاء واشنطن وعلى رأسهم كيان الاحتلال الصهيوني، لتليها الحرب الأوكرانية (الروسية ـ الأطلسية) في 24 شباط /فبراير 2022 وتداعياتها وإرهاصاتها على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم عموماً وفي دول الاتحاد الأوروبي خصوصاً، وما حدث بينهما من تطورات في حرب اليمن جعلت الأمن الاقتصادي السعودي والإماراتي تحت مرمى المسيرّات والصواريخ اليمنية التي لم تردعها صواريخ الباتريوت الأميركي…
هذا مع استمرار الصمود السوري في وجه العقوبات الأميركية أحادية الجانب، بعد فشل الحرب العسكرية باستخدام مجاميع العصابات الإرهابية التكفيرية والانفصالية في تدمير الدولة الوطنية السورية وتفتيتها إلى كانتونات كرتونية وفق هويات جزئية متصارعة اثنية أو دينية أو مذهبية، ليتمّ الإعلان بعدها في آذار /مارس 2023 عن اتفاق سعودي إيراني بمشاركة ورعاية صينية تطور إلى توقيع اتفاقيات وشراكات اقتصادية وتطوير حقول نفطية وغازية، وتسارع انفتاح عربي على سورية، بدأت أولى خطواته بعودة سورية إلى مقعدها في الجامعة العربية، والمخرجات الميدانية لاجتماع أستانة 20 في العاصمة الكازاخية، بما ينبئ بتسارع إجراءات تحرير الشمال السوري من مجاميع العصابات الإرهابية، وخروج الاحتلال التركي نحو عودة تطبيع العلاقات السورية التركية، وما رافقها من اجتماع واتفاق في مدينة القامشلي بين هيئة التنسيق الوطني المعارضة ومجلس سورية الديمقراطية الجناح السياسي لـ قسد «مسد»، وما نتج عنه من مذكرة تفاهم أهمّ بنودها وقف الحرب وإنهاء كلّ أشكال العمليات العسكرية والقتالية داخل الأراضي السورية، والعمل على خروج جميع الفصائل المسلَّحة غير السورية، والقوى الأجنبية الموجودة على الأرض السورية، مع المحافظة على وحدة سورية الجغرافية والسياسية، ورفض كلّ المشروعات والمحاولات التقسيمية والانفصالية، واندماج «قسد» مع الجيش السوري بطريقة مهنية، وليست ككتلة عسكرية واحدة، منها للانتساب إلى الجيش، ومنها إلى القوى الأمنية، وبالتالي نحو قرب تعافي سورية وعودتها وفق الثنائية «سورية ـ السعودية» إلى دورها العربي والاقليمي…
في قلب هذه التحوّلات تتطوّر الأحداث في فلسطين المحتلة وداخل مجتمع كيان الاحتلال الصهيوني بما يتكامل وتبدّلات الإقليم والعالم مع تقويض طموحات كيان الاحتلال الصهيوني بتصفية القضية الفلسطينية، وبناء (إسرائيل العظمى) بعد سلسلة من العوامل داخل كيان الاحتلال الصهيوني (الحكومة والمجتمع والجيش)، ومع مختلف الجبهات اللبنانية والسورية والإيرانية والفلسطينية (قطاع غزة والضفة الغربية بشكل أساسي):
ـ إجراء خمسة انتخابات في غضون أربع سنوات فقط، تمخضت عن الأخيرة حكومة ائتلافية يمينية متشدّدة (نتنياهو، بن غفير، سموتريتش)، تعهّدت بتوسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة، وإضعاف القضاء (الحدّ من سلطات المحكمة العليا في إصدار أحكام ضدّ السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومنح النواب سلطة أكبر في تعيين القضاة)، فالتحوّلات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية العميقة التي حدثت داخل المجتمع الصهيوني قدمت التيار اللاعقلاني الديني الاستيطاني الغوغائي على حساب جنرالات جيش كيان الاحتلال السابقين ورؤساء أركانه، الذين كانوا سابقاً «درة تاج» سياسة كيان الاحتلال وأهمّ قادة حكومته.
ـ اتساع دائرة الاحتجاجات للأسبوع الـ 27 في كيان الاحتلال الصهيوني ضدّ خطة التعديلات القضائية، التي تقودها حكومة بنيامين نتنياهو، بما يزيد الأزمة الداخلية والاستقطاب، وتعمّق الشرخ في مجتمع كيان الاحتلال، وتفاقم الصراع السياسي والحزبي، نحو حالة من الانقسام تتنامى يوماً بعد يوم، فالشرخ الحاصل في مجتمع كيان الاحتلال، والاحتجاجات، والانقسام في الجيش والمؤسسات الأمنية، وتداعيات الانقسام على الاقتصاد والمؤسسات المصرفية والأكاديمية، كلّ ذلك سيفضي إلى مجتمع منقسم على ذاته، وليس لديه إجماع على أيّ قضية حتى في ما يتعلق بالأمن.
ـ منذ تحرير جنوب لبنان عام 2000، إلى العدوان الصهيوني على جنوب لبنان في تموز 2006، إلى مفاوضات اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، إلى عملية مجدو، حتى المناورة العسكرية الأخيرة التي أجراها حزب الله في بلدة عرمتى على بعد 20 كيلومترا من «الخط الأزرق» الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة بعنوان «سنعبر»، وبحضور وسائل إعلام محلية ودولية. تتغيّر معادلات الردع لصالح محور المقاومة ونحو تآكل قوة الردع الصهيونية.
ـ خلال العامين الماضيين خاض كيان الاحتلال عدة معارك مع الفصائل الفلسطينية المقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية منها «سيف القدس»، و»وحدة الساحات»، و»ثأر الأحرار»، و»بأس الأحرار»، سطرت فيها فصائل المقاومة الفلسطينية أروع البطولات، وأثبتت مجدّداً زيف أسطورة (الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر) بنزول أكثر من مليون مستوطن إسرائيلي إلى الملاجئ، وفشل قبّته الحديدية ومقلاع داوود في ردع وصدّ صواريخ المقاومة التي وصلت إلى تل أبيب، وأدّت إلى إغلاق المطارات والموانئ، ما يعني مزيداً من تآكل قوة ردع الكيان.
ـ تصاعد وتيرة العمليات الاستشهادية في تل أبيب والقدس، والتي لن يكون آخرها عملية الشهيد رعد حازم في ديزنغوف في تل أبيب، وعملية عيلي، بما يعكس فشل منظومة كيان الاحتلال الأمنية والعسكرية.
وفي محاولة لتغيير المعادلة وفق تصريح نتيناهو وخروج كيان الاحتلال الصهيوني من مجموعة أزماته الداخلية، وترميم قوة الردع المتآكلة أعلن جيش الاحتلال فجر الإثنين 3 تموز/ يوليو عن البدء بعملية واسعة لاقتحام مخيم جنين وتدمير بنيته التحتية المسلحة وصولاً لإنهاء دور جنين كبؤرة مقاومة باسم (بيت وحديقة)، وذلك من خلال ضربة انتقائية خاطفة للقضاء على المقاومين، وإعادة الهيبة للمؤسسة الأمنية والعسكرية، وكبح المعارضة، التي تفاقم دورها بصورة كبيرة في خريطة المشهد السياسي لكيان الاحتلال الصهيوني. ليتفاجأ جيش الاحتلال بارتفاع وتطور تقنيات المقاومين وتكتيكات إدارة الحرب في جنين للعمل على تثبيت معادلات الردع السابقة مع كيان الاحتلال، والتأكيد أنّ المخيم قادر على إلحاق الأذى الشديد بأمن الاحتلال في داخل الكيان، وأنّ المخيم لن يكون جزءاً من (إسرائيل) .
حيث تقوم المقاومة في جنين، بصورة أساسية، على بيئة حاضنة حرصت على المحافظة على الذاكرة النضالية الفلسطينية وعلى توريثها بين الأجيال، إذ إنّ معظم الشباب الفدائي في المخيم اليوم، لم يكن يتجاوز عمره أعواماً معدودة عندما اقتحم الاحتلال مخيم جنين عام 2002 بعملية (الدرع الواقي). ولا يزال يحتفظ في ذاكرته الجمعية أنّ جنين كانت ولم تزل في طليعة المقاومة الفلسطينية على مرّ التاريخ، ففي عام 1799 أشعل سكان جنين النار في بساتين الزيتون والغابات لوقف تقدّم الجنود الفرنسيين بقيادة نابليون بونابرت، وبعد أكثر من قرن من الزمن نظم المجاهد عز الدين القسام أول مقاومة فلسطينية مسلحة عام 1935 ضد البريطانيين، حيث وجد حاضنة شعبية لثورته في جنين لتصبح مركزاً للمقاومة ضدّ الانتداب البريطاني، وفي عام 1936 وبعد استشهاد القسام واصل المقاومون الفلسطينيّون درب الكفاح ونصبوا في 15 نيسان /أبريل 1936 كميناً لحافلة على طريق نابلس ـ طولكرم قرب جنين، قتل فيها راكبان يهوديان انتقاماً للشهداء الفلسطينيين الذين قتلوا على يد المنظمات اليهودية، لتكون كشرارة لبداية انتفاضة استمرت لمدة ثلاثة أعوام، اجتاحت فيها جنين قوة بريطانية كبيرة تحمل المتفجرات والديناميت وفجرت نحو ربع البلد بعد اغتيال قائد بريطاني كبير في جنين عام 1938، وانتهت الانتفاضة عام 1939 عندما أصدر مسؤول الانتداب البريطاني بياناً يعدون فيه بالحدّ من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وذلك بعد اغتيال منظم قادة الانتفاضة الفلسطينية.
وبعد نكبة فلسطين عام 1948، قتل آلاف الفلسطينيين وهجروا من منازلهم من قبل الميليشيات اليهودية، واحتلّ جيش الاحتلال جنين، وأجبر أهلها على الفرار تحت قصف المدفعية الثقيلة لمدينتهم، لكن الجيش العراقي والمقاومين الفلسطينيّين دافعوا عنها، ودارت معركة حامية الوطيس انتهت بانتصار الفلسطينيين، لتؤول جنين في عام 1949 إلى حكم الإدارة الأردنية، ومع بداية الخمسينات تأسّس مخيم جنين لإيواء النازحين الفلسطينيين الذين طردوا من بيوتهم أثناء حرب 1948 بين الصهاينة المعتدين وجيوش الدول العربية، وأصبح المخيم الواقع على الأطراف الغربية لجنين معقلاً للمقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني، خاصة في السبعينات والثمانينات، حيث وقعت جنين تحت الاحتلال الصهيوني بعد حرب 1967، وأصبحت مركزاً لمنطقة جنين التي يحكمها حاكم عسكري صهيوني مباشرة، وفي كانون الأول /ديسمبر عام 1987 اندلعت الاحتجاجات والمظاهرات ضدّ الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية وغزة، فقاوم سكان جنين وفشل جيش الاحتلال مع سياراته المصفحة باقتحام المخيم لمدة 60 يوماً بسبب المقاومة الشرسة، ليتمكن من اقتحامه في شباط/ فبراير عام 1988، ليعاود الكرّة أثناء الانتفاضة الثانية في نيسان/ أبريل في عام 2002 حيث اجتاح جيش الاحتلال الصهيوني مخيم جنين كجزء مما أسماه «عملية الدرع الواقي»، فحاصر المخيم وقطع عنه المياه والطعام والكهرباء ومنع دخول المواد الطبية قبل تفجيره بطائرات «أف 16» وقذائف المدفعية ليقتحمه بقوات غفيرة من الجيش والمشاة والدبابات، مما تسبّب باستشهاد عشرات الفلسطينيين، وتدمير عشرات المنازل، ونزوح آلاف السكان، وأصبحت رمزاً مهمّاً للقمع الصهيوني، والصمود الفلسطيني، ولا يزال مخيم ومدينة جنين يتصدّر المواقع الإعلامية بين الفينة والأخرى كجبهة عصية على الاحتلال خلال المواجهات والسجالات، وليس آخرها «بأس الأحرار» في 21حزيران/ يونيو التي تميّزت بمواجهة صلبة من قبل أبطال ورجال المقاومة الفلسطينية التي أوقعت خسائر بشرية ومادية في صفوف جيش الاحتلال وحاصرت بعض عناصره بنصب الكمائن لهم وتدمير آليات عسكرية ومنها تدمير مدرعة مصفحة عسكرية «إسرائيلية» بعبوة ناسفة شديدة الانفجار، ما يثبت للكيان انّ التصنيع العسكري الفلسطيني قد انطلق بالفعل ومنه صناعة العبوات التي سُمّيت بأسماء الشهداء الفلسطينيين، مما اضطره للاستعانة بطائرات الـ «أباتشي» من أجل تأمين انسحاب جنوده الذين قتلوا وأصيبوا في معركة لم تكن سهلة مع التطور الملحوظ في إعداد وتكتيك واستراتيجية المقاومة.
وبقراءة ما بين سطور تصريح الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين زياد النخالة منذ عدة أيام أنه تمّ وضع برامج من أجل تسليح الضفة، إنْ كان عبر تهريب الأسلحة أو عبر شراء الأسلحة من الاحتلال الإسرائيلي نفسه، يبدو أنّ المقاومة أعدّت جيدا لمعركة «بأس جنين»، بتطوير شبكة أنفاقها، وإسقاط العديد من المُسيّرات، وتصنيع عبوات ناسفة متطورة أعطبت العديد من مصفحات ومدرّعات جيش الاحتلال، أو من خلال تكتيكات وتقنيات الإدارة النوعية للمعركة باستدراج قوات الاحتلال إلى داخل المخيم وايقاعه في حصار وكمائن واشتباكات ومواجهات من نقطة صفر… لتبقى جنين سيفاً ضارباً دفاعاً عن فلسطين، تحول دون تغيير معادلات الردع لمحور المقاومة، أو ترميم قوة الردع الصهيونية المتآكلة…
لنتساءل في الختام هل ستكون «بأس جنين» أو عملية قادمة في جنين هي شرارة الحرب الكبرى، حرب تحرير فلسطين من البحر إلى النهر…؟