شهدت معظم فترات الصراع مع العدو الصهيوني بعض التباين في التقييم للعلاقة بين الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة، حيث ذهبت بعض الآراء إلى أن الكيان هو من يتحكم بالسياسات الأمريكية في المنطقة، وأن الكيان هو الذي يقود بينما تكتفي أمريكا بدور الفرملة والضغط على المكابح، بينما يثبت الواقع أن الكيان هو مجرد تابع ولا غنى له عن أمريكا وأنه لايستطيع المضي خطوة تصعيدية دون التنسيق مع أمريكا لأنه يعلم أنها الضمانة الوحيدة لحمايته.
ربما هناك فترات شهدت توافقا وتنسيقا وقوة للكيان تسببت في هذا الخلط لدى البعض، ولكن الواقع الحالي قد كشف الحجم الحقيقي للكيان وطبيعة العلاقة التابعة لأمريكا لسببين رئيسيين:
الأول: هو حالة الضعف والأزمات الناتجة عن التراكم التاريخي لأوضاع شاذة لكيان مصطنع، وهو ما أبرز الحاجة الدائمة للحماية الأمريكية باعتبارها خط الدفاع الأخير عن الكيان، وهو ما تبلور في بقاء التلويح الصهيوني بالتصرف المنفرد والمنعزل عن أمريكا في خانة الشعارات الجوفاء والتراجع عنها بشكل مستمر.
الثاني: هو وصول أشد الوجوه تطرفا لمقالبيد السلطة في الكيان، ومع ذلك لا يستطيعون المضي في تنفيذ رغباتهم الإجرامية والمتطرفة بسبب القيود الأمريكية والتي مصدرها الوحيد هو المصلحة الأمريكية والخشية من التورط وليست بالطبع الجوانب الأخلاقية أو الإنسانية أو التعاطف والصداقة مع الشعب الفلسطيني أو شعوب المنطقة.
ولكن المفاجأة غير السارة التي فوجئ بها الكيان هي أن أمريكا نفسها قد تراجعت قوتها ومكانتها وهيبتها، وهو ما عمق من الأزمة الصهيونية وضيق كثيرا من هامش مناوراتها وخياراتها.
والمفاجأة الأسوأ للعدو الصهيوني هي أن التراجع الأمريكي يعود السبب الرئيسي له إلى تنامي المقا.ومة وصمودها وتطورها وهو ما يتم ترجمته سياسيًا وعسكريًا واستراتيجيًا إلى عنوان بسيط وهو "تغير موازين القوى"، وهو مستجد أمام الصهاينة، ربما كان أوضح تعبير له، هو الذي جاء على لسان رئيس أركان العدو الصهيوني السابق غادي ايزنكوت في كلمتة أمام "كنيست" الاحتلال حيث قال إنَّ ""إسرائيل" تواجه واقعًا معقدًا ومتفجرًا لم نعرفه منذ سنوات طويلة"، مشيرًا إلى أنَّ "الردع الاسرائيلي في المنطقة تراجع إلى مستوى لا يذكر مثله منذ عشرات السنين".
وإذا أردنا تلخيص الواقع الراهن فيمكن إبراز عناوينه كما يلي:
1- أمريكا تسعى للحفاظ على الهيمنة بينما "اسرائيل" تسعى للحفاظ على الوجود وهو ما يمثل تناقضًا واقعيًا بين الادارة الأمريكية والحكومة الصهيونية، ومصدر التناقض هو اختلاف الأولويات.
ويمكن تفصيل ذلك العنوان في أن الأولوية الأمريكية دوليًا هي افشال روسيا وهزيمتها في اأوكرانيا وأولويتها في المنطقة – وفقًا لما كشفه دينيس روس- هو التطبيع بين السعودية و"اسرائيل" لفتح الطريق أمام بايدن لإنجاز متمثل في إتمام "الاتفاقات الإبراهيمية"، بينما الأولوية الصهيونية هي استعادة الردع والموازنة بين مستجدات الوضع الداخلي وسيطرة المتطرفين وبين العلاقات الدولية، واستعادة ميزان القوة في كفتها ولو كان على حساب حرب بشرط توريط أمريكا في هذه الحرب.
2- أمريكا تجني ثمار العداء للمقاومة، وفي تفاصيل ذلك، فإن هناك دخولًا روسيًا قويًا على ملفات المنطقة ومنها القضية الفلسطينية والعلاقات العربية - الإيرانية والحفاظ على الأنظمة العربية من السقوط لمنع حالة فوضوية جديدة على غرار "الربيع العربي"، وهناك تحالفات قوية روسية مع إيران وتقارب مع قوى المقاومة، وهو وضع لا تستطيع أمريكا محاكاته لأنها معادية لقوى المقا.ومة ولأن علاقتها بالأنظمة شابها مناخ من عدم الثقة وتقوم العلاقات على مبدأ الإذعان وهو وضع غير مضمون لأمريكا مع تطورات الأوضاع الدولية ويبقى رهنا لنتيجة الصراع الدولي المحتدم حاليا والمنذر بانزلاقات خطيرة.
3- يفتقد الصهاينة الأفق سواء في التسوية أو التصفية، فبينما تتركز الأنظار على السلطة الفلسطينية، تسعى "اسرائيل" إلى منع انهيارها مقابل توريطها في الصراع مع المقا.ومة ونقل الحرب إلى نطاق حرب أهلية فلسطينية-فلسطينية، ومحاولة رشوة الشعب الفلسطيني في الضفة ببعض الرشاوى الاقتصادية والانفراجة مقابل التخلي عن المقا.ومة، والسلطة تعلم أنها غير قادرة على القيام بهذا الدور وأنه نقل لها من خانة الشرعية المجروحة الى خانة الخيانة المعلنة، كما أن ثقافة المقا.ومة قد سيطرت وسادت في جميع الأراضي والأوساط الفلسطينية وفطن جميع الفلسطينيين إلى خديعة التسويات والمفاوضات وعبثية "خيار السلام"، وبالتالي لا بديل للتصعيد الراهن والذي تفيد دروس التاريخ وحتمياته بانتصار المقا..ومات على الاستعمار طالما هناك صمود وتمسك بخيار المقا.ومة.
4- سطوة القضايا الوطنية الجامعة، فبينما تشهد جميع البلدان خلافات وتناقضات وصراعات داخلية، إلا أنه وفي محطات تتعلق بقضايا جامعة، فإن هناك خط للرجعة، وجدناه بشكل جلي في لبنان، عند التوحد على قضية ملف الغاز والطاقة، ونجد له شواهد عند الانتهاكات الأخيرة المتعلقة بقرية الغجر، ونجده في كل ما يتعلق بالسيادة الوطنية في لبنان ومصر والعراق وغيرها من البلدان التي تشهد تناحرًا سياسيًا.
هذه العناوين الرئيسية تقول إن المسار الراهن يصب في صالح المقاومة وخيارها وحركاتها سواء المقاومة للعدو الصهيوني، أو المقا.ومة للهيمنة الأمريكية، وأن تراكم التناقضات الاستعمارية بدأ يدخل في مرحلة جني الثمار، وأبرزها أزمات وفشل وعجز وانتقال التشرذم الذي صنعه الاستعمار إلى معسكر الاستعمار نفسه، وهو فخ من فخاخ التاريخ لطالما سقطت فيه أعتى الإمبراطوريات.