كتب الدّكتور علي حجازي: "العابر"..
اعتنق رشّاشه طويلاً ، قبّله وشدّ عليه بيدين ثابتتين ، ثم أبعده قليلاً وأخذ يتملّاه ، راجياً اللهَ أن يوصل رسالته البليغةَ محمولةً على أجنحة ذخيرة ربّت عليها كثيراً.
نظر إلى السماء وأطلقها مدويّة: باسم الله وبالله ، وخرج .
مبتسماً كان، وهو العابر الأوّل إلى زمن جديد رآه جميلاً.
الفرحةُ تطير من حدقتين سكنهما الدمع طويلاً حزناً ؛ غير أنَّ هذا الدمعَ منذورٌ الآنَ للفرحِ الذي يسبق الثأرَ عادةً . الثأرَ لجميع ِ الضحايا الذين فتك بهم هذا الذئبُ الغادرُ المتسلّلُ إلى أرضنا مسكوناً بشهوات القتل والدمار التي تنزُّ من روحه وعينيه .
عَبَرَ الحدودَ بخطىً ثابتةٍ ، وروح ٍ وثّابة ، بعدما داس تلك الاتفاقيّةَ المُذِلَّة ، وشرع يردِّد:
"واه يا عبد الودود، يا رابض عالحدود، ومحافظ عالنظام،
خليك جدع لأبوك ليقولوا منين جابوك".
هذه الكلماتُ التي أبدعها ابنُ نجم. وترجّعت في حَنجَرَةِ الشيخ إمام ، ذكّرتهُ بما فعله شُذاذ بني صهيون بالأسرى الذين قُتِلوا غِيلَةً في سيناء وبور سعيد،وفي غير مكان، وبالدمارِ العظيمِ الذي حوّل مُدُناً مصريّةً وغيرَ مصريّةٍ إلى رُكام ، وبضحايا الطائرةِ المدنيّةِ التي أسقطوها فوق سيناء، وبأطفال مدرسة بحر البقر، والمعلمين الذين غرقوا في دمائهم التي لوّنت مقاعدَهم جراءَ حقدٍ بل أحقادٍ لا تستثني أطفالاً يرسمون خارطةَ مستقبلٍ واعِد.
أخيراً وصل.
كانت الذئابُ ترقص معربدةً على دماءِ أطفال ِ فلسطين على امتدادِ خارطتِها المغتصبة ، هذا المشهدُ المغرِقُ في الوجع ِ أشعلَ دمَهُ فهمس:"هذا الرقصُ يلزمُهُ لَحْنٌ شَجِيّ، سأعزِفُ للذِّئاب ، وسيُغَنّي الرصاص". ثمَّ أطلقَها صرخةً مدويّة :
"والله زمان يا سلاحي،
اشتقت لك في كفاحي".
وراح يعزف على آلته الحربيّةِ كلماتٍ وأنغاماً وألحاناً لا يفهم هؤلاء الشذاذ سواها.
"خلِّيكْ يا وادْ صاحي".(استرجعها تواً)
- صاحي صاحي(قال) وتقدّم ؛ جبينُهُ في الثريّا ، وروحُهُ في الأرضِ تُمَسّدُ على أضرحةِ الشهداءِ بِرِفْق ، وتمسحُ على وجوهِ حجارةِ بيوتٍ دُمِّرَت في مصرّ وفلسطين، وفي غيرٍ مكان ٍ غَزَتْهُ الذئابُ وحلّتْ بِه. فانطلقت منه عفواً:
"مصر يا أُمَّهْ، يا بهيَّهْ، يا أُمَّ الطرحَهْ وجلابيَّهْ.
الزمنْ شابَ وانتِ شابّهْ، هُوَّ رايِحْ وانْتِ جايّهْ".
ثمّ اندفعَ مُتابِعاً العزفَ ثانيةً على أرواحِهِم المسكونةِ ذعراً وجبناً، وجثثهم المُتَهالِكَة، ولمّا علا عواءُ الذئاب الخائفةِ من صوتِ الفتى المصريِّ العريسِ البطل ِ العائدِ محمولاً على سطورِ عزٍّ حَبّّرّها في سِجِلِّ أُمِّ الدُّنيا التي لا تنامُ على ضيم، فاحتضنَتْهُ الأرضُ التي اشتاقت إلى مَنْ يدوسُ الِاتِّفاقياتِ الموقّعةِ، ويمزِّقُها ، ويعبرُ مقدِّماً الدَّمَ مهراً، وبعدما شيّعتْهُ القلوب ،وزغردتِ الصبايا، وشَرَعَ الشُّبّانُ يشحذونَ الهِمَمَ ويردِّدون:
"خلِّ السِّلاحْ صاحي .
خلِّ السلاح صاحي...
الزمنْ رايحْ وانتِ جايّهْ
وانتِ جايّهْ وانتِ.جايّه"
قبريخا - جبل عامل