كتب خضر رسلان:
لا شك انّ الراعي الأميركي الذي تعزز حضوره في منطقة ما يسمّى «الشرق الأوسط» إثر العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956 يملك ما يكفي من تجربة عملية في ميادين التوطين والتغيير الديمغرافي والتطهير العرقي ونهب الثروات والقتل والتشريد، وذلك بعد نجاحه في اقتلاع أصحاب الأرض الأصليين في ما اصطلح على تسميته لاحقاً الولايات المتحدة الأميركية، حيث مارس عليهم ممارسات وانتهاكات وقد استنسخ البعضَ منها في العراق وسجن ابو غريب. كلّ ذلك بعد إلقائه القنابل النووية في هيروشيما وناكازاكي دون ان يرفّ له جفن. هذا فضلاً عن الكثير من الاجتياحات الخارجية وإسقاط أنظمة وسحق شعوب تحقيقاً لغايات سلطوية ونهب ثروات من دون شفقة او تردّد.
وهذا ما تفسّره بعض مراكز الدراسات المتخصصة في علم الاجتماع والسلوك بردّه الى الطبيعة التي نشأ عليها العقل الأميركي منذ اقتلاعه للشعوب التي كانت قاطنة في أميركا، والذي أصبح مع الوقت يتحرك تلقائياً وفطرياً بناء على الموروث الذي نشأ عليه لتنفيذ أجنداته ومصالحه دون ايّ اكتراث للحقوق الإنسانية الطبيعية التي كفلتها كلّ القوانين والشرائع سواء منها للأفراد او الكيانات. ومثال عليه ما آلت إليه الأمور في فلسطين وما يعمل عليه ويخطط للكيان اللبناني وأصل وجوده.
أميركا تسنسخ تجربتها في الدمج والتوطين؛ وتدير ملفات العالم ومنها منطقة «الشرق الأوسط» من موقع أنها القطب الأوحد الذي لا يقبل الشراكة فتستفيد الى جانب هيمنتها الأحادية وانصياع معظم حكام دول العالم لها من تجربتها التاريخية في التغيير الديمغرافي وتوطين المهاجرين وفرض أمر واقع مخالف لكلّ الشرائع والقيم الإنسانية كما هو الحال في فلسطين التي بالرغم من أنّ جميع القرارات الدولية ومنها القرار 194 تؤكد على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم وممتلكاتهم كحق إنساني متجرد، لم يكتفوا بجعله قراراً حبراً على ورق، بل دفعوا الشعب الفلسطيني لانتشاره عنوة في بلاد الشتات ومن ثم وضعوا البرامج والخطط التي تكفل تدجين الذاكرة التاريخية بما يسهل عملياً إلغاء حق العودة كليا، ودمجهم حيث هم ولبنان ليس بمنأى عن ذلك.
ولبنان الذي اكتوى سابقاً في موضوع الأراضي المسلوخة عنوة منه سواء من قبل دولة الانتداب او من الاحتلال الصهيوني، لا سيما أراضي القرى السبع، وبعد النجاح في التكريس الواقعي لإلغاء حقّ العودة للاجئين الفلسطينيين وجعل أمر اقامتهم في لبنان امراً مألوفا تتجه الكرة في الوقت الحالي الى مشروع تدجين جديد للذاكرة وهي الأخطر وتمسّ ماهية لبنان وتركيبته ودوره الوظيفي من خلال العمل على دمج النازحين السوريين ضمن المجتمع اللبناني…
والأمر المستغرب بل الكارثي هو انصياع العدد الكبير من المسؤولين ومن يطلقون على أنفسهم صفات السياديين سواء أكانوا شخصيات او أحزاباً او منظمات مجتمع مدني تراهم وكأنّ على رؤوسهم الطير فمنهم من لاذ بالصمت انصياعاً وخنوعاً ومنهم وهم الأخطر الذين انغمسوا في تقديم الخدمات لإنجاح المشروع الأميركي الأوروبي التي تحث عليه علناً الزيارات المكوكية للمسؤولين الأمميين والغربيين الذين يزورون لبنان، ويرصدون الأموال والإمكانيات الضخمة لتحقيق ذلك.
السؤال الذي يطرح نفسه في ظلّ ما يًحاك للبنان واللبنانيين: ما هو الدور المطلوب من المسؤولين اللبنانيين؟ وهل من المعقول استقبال موفدين يتحدثون عن فراغ رئاسي وهم أنفسهم يعملون بالليل والنهار على طمس الهوية اللبنانية وتهجير أبنائه تارة بحصار اقتصادي عبر «قانون قيصر» وتارة بعقوبات خارج شرعية الأمم المتحدة وتارة بتسهيل قدوم سوريين وتهديد من يشجع على عودتهم الى ديارهم، بل يعملون على تمويل دمجهم في لبنان؟!
يحدث هذا في ظلّ صمت مريب يعتري الكثير من القوى والشخصيات التي تدرك جيداً ما يُحاك وما يرسم.
إنْ كان من المشروع حدوث تجاذبات وخلافات سياسية بين جميع مكونات المجتمع اللبناني، وإنْ كان من الجائز عدم التوصل الى تفاهمات لانتخاب رئيس للجمهورية، فإنه من غير المفهوم في ظلّ هذا الخطر الداهم على أصل ماهية لبنان وكيانه ووجوده كيف لا يتمّ الإجماع على تأجيل كلّ حديث عن رئاسة وانتخابات وتقاسم حصص الى ما هو أهمّ وأخطر؟! وما تصرّف مفوضية اللاجئين التابعه للأمم المتحدة ورفضها تسليم داتا النازحين على أراضي لبنان إلا شذرات قليلة مما يُحاك ويخطط في ظلّ سبات عميق يغط فيه الكثيرون ممن يتصدّون للشأن العام في لبنان.
إلا انّ الأشدّ غرابة انخراط العديد منهم في التسويق والترويج للمشاريع الخطيرة التي تستهدف لبنان وشعبه.
فليكن البند الوحيد المسموح النقاش فيه مع كلّ الوفود الوافدة الى لبنان بحجة وضع حدّ للفراغ الرئاسي حديث واحد يجمع عليه كلّ اللبنانيين وهو الحدّ من تدفق النازحين وتسهيل وتمويل عودتهم إلى ديارهم.
رحم الله من قال اصنعوا القوة فإنّ العالم لا يحترم إلا الأقوياء، ونحن نمتلك البحر ومياهه الممتدة الى أوروبا وما علينا إلّا بناء السفن التي تساهم وتسرعّ في بناء لبنان…