كتب الأستاذ خضر رسلان
طوفان الأقصى وما تلاه من مواجهات في غزة هاشم «برز خط النزول وخط الانحدار لدى العدو الإسرائيلي وكيانه المصطنع»، وعزز في الوقت عينه مؤشر الصعود البياني وتجميع نقاط القوة والاقتدار لدى المقاومة ومحورها وهذا الأمر يبدو جلياً وبيّناً لدى مراجعة السياق التاريخي الذي تمّ رسمه منذ «وعد بلفور» عام 1917 حيث نجحت الحركة الصهيونية، بعد عقدها صفقة مع بريطانيا على أخذ وعد منها بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وبهذا المتغيّر الخطير بدأ خط الصعود الصهيوني باتجاه إقامة «دولة إسرائيل» على أرض فلسطين، والتي سبقها وقوع أحداث وتطورات استطاع الصهاينة خلالها تجميع نقاط قوة ساهمت في تعزيز سطوتهم وجبروتهم التي يمكن إيجازها بالتالي:
ـ نجاح الصهاينة عام 1922 بتحويل وعد بلفور من وثيقة بريطانية الى وثيقة دولية نتيجة لتواطئ دولة الانتداب البريطاني التي أوْدعته كصك قانوني لدى «عصبة الأمم» بغاية تثبيته واضفاء الشرعية الدولية عليه.
ـ عام 1947 صدر قرار بتقسيم فلسطين عن الأمم المتحدة والذي بموجبه منح الصهاينة دون أيّ وجه حق المساحة الأكبر من أرضها، وبعد إيغالهم في القتل وسفك الدماء وارتكاب المجازر بحق الشعب الفلسطيني تمّ إعلان قيام كيانهم في العام 1948 على 78% من المساحة الإجمالية لفلسطين، التي أتبعها إطباقهم على كامل أراضيها في ما سُمّي نكسة 1967، وهو العام الذي بلغ تسجيل النقاط والصعود الإسرائيلي مداه، ورغم أنّ الجيشين السوري والمصري استطاعا عام 1973 شنّ حرب تحريرية وكانا على وشك وضع حدّ للصعود الإسرائيلي وتسجيل نقاط حاسمة في مرمى كيانه الغاصب، إلا أنّ التطورات ونتائج الحرب أظهرت تعادلاً في تسجيل النقاط وخطاً متوسطاً بين الصعود والانحدار الذي عاد وانحرف صعوداً في المشروع الإسرائيلي بعد الخروج المصري من دائرة الصراع وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد في العام 1978.
ثورة الإمام الخميني: بداية الانحدار الصهيوني
زيارة أنور السادات الى «إسرائيل» كانت القمة في تراكم النقاط والصعود الصهيوني الذي أدّى إلى توجيه صفعة كبرى للقضية الفلسطينية وارتفاع في وتيرة الإحباط لدى الجمهور العربي الذي لم ينهض من سباته إلا مع انطلاق الثورة الإسلامية الإيرانية في شباط من عام 1979، تاريخ بداية الصعود المقاوم الذي بدأت أولى شذراته بعد إسقاط نظام الشاه إعلان قائد الثورة الإمام الخميني عن طرد السفير الإسرائيلي في طهران وتسليم مبنى السفارة الى جبهة التحرير الفلسطينية ورفع العلم الفلسطيني عليها، وكان إعلان الإمام الخميني عن اليوم العالمي للقدس، ومن ثم تصريحه العلني أمام الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بأن (لا بدّ ان تمحى إسرائيل) بمثابة إعادة الثقة للأمتين العربية والإسلامية لتعود القضية الفلسطينية الى الواجهة من جديد وليبدأ معها عملية تجميع النقاط وبناء القدرات حيث تأرجح فيه الخط البياني بين صعود وهبوط بين أعوام 1982و 2000، فبعدما حققت «إسرائيل» نصراً عسكرياً على منظمة التحرير الفلسطينية اثر اجتياحها لبنان، ونصراً سياسياً واضحاً على اثر توقيع اتفاقية 17 أيار، حيث كان المُراد إدخال لبنان كلياً في الركب الإسرائيلي، استطاعت قوى المقاومة مستمدّة عزيمتها من حركة الإمام الخميني الثورية من تحويل الواقع الى فرصة للنهوض والقيام الذي بدأ مع تدمير مقرّي المارينز والمظليين الفرنسيين وتدمير مقر الحاكم العسكري في صور، ومنذ ذلك التاريخ بدأت المقاومة ولا تزال تراكم النقاط في مرمى المشروع الإسرائيلي والتي يمكن ايجاز ابرزها بالتالي:
1 ـ لبنانياً: تمّ إسقاط سردية الجندي الذي لا يُقهر وسحق نظرية «إسرائيل الكبرى» بعد سلسلة مواجهات امتدّت من اجتياح عام 1982 وصولاً حتى اندحار عام 2000 وما تخلله من فرض معادلات أثمرت نصراً وأسقط عبره مشروع «إسرائيل الكبرى»، ومن ثم راكمت المقاومة نقاط قوتها بعد تسديد ضربتها لنظرية «إسرائيل العظمى» التي أسقطتها أذرع المقاومين في العام 2006 لترسم معادلة ردع جعلت الإسرائيلي يهوي باندحاره ليتقوقع خلف جدر لا تغني ولا تسمن…
2 ـ فلسطينياً: انعكس ترابط الجبهات التاريخي بين لبنان وفلسطين بشكل جلي عقب انتصار 2000 الذي وضع اللبنة الأساسية لخط الانحدار الإسرائيلي وأثمر تسارعاً في تجميع النقاط وتسجيلها في المرمى الصهيوني بعد نجاح انتفاضة الأقصى في تفكيك المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في قطاع غزة واندحار «الجيش» الإسرائيلي منه عام 2005 بفعل ضربات المقاومة الفلسطينية المتواصلة لتبدأ بعدها عملية الصعود وبناء القوة وتسجيل النقاط في حروب ومواجهات ساهمت في تعزيز خط الانحدار الصهيوني منذ عام 2008، لا سيما سيف القدس منها مروراً بمعركة ثأر الأحرار وصولاً الى طوفان الأقصى الذي حقق للقضية الفلسطينية وللمقاومة ومن ثم لمحورها تراكماً هائلاً من نقاط قوة، وصعوداً لقضايا الحق والعدالة بلغ صداه شعوباً كانت الى الأمس القريب في مقلب آخر.
لا شك انّ من أهمّ إنجازات سياسة تجميع النقاط التي اعتمدتها قيادة محور المقاومة ومنذ سنوات طويلة أنها استطاعت إقامة بنية قوية ومتصاعدة تمتدّ من باب المندب مروراً بمضيق هرمز حتى سواحل غزة، وبعد كمّ كبير من تراكم النقاط وعلى اثر معركة طوفان الأقصى وبفضل الدماء الغزيرة التي سالت تمّ تحقيق الإنجاز الأكبر في إعادة الاعتبار لـ فلسطين الدولة والشعب والقضية، وفي الوقت ذاته توجيه ضربة قاصمة لمحاولات تشريع الوجود الإسرائيلي في المنطقة من خلال مشاريع التطبيع التي صار الترويج لها أمراً غاية في الصعوبة، هذا الى جانب انّ هذا الكيان الذي سوّق لنفسه أنه عنصر حماية للأنظمة المطبعة وجد نفسه بحاجة للحماية، وهذا أمر يُعتبر ذروة في الانحدار، لأنه يضرب أساس المشروع الصهيوني القائم على الأمن وانّ «إسرائيل» هي الملاذ الآمن ليهود العالم.
ختاماً… فإنّ سياسة تجميع النقاط لم تفلح فقط في بناء محور متماسك تقوده غرفة عمليات مشتركة تضع نصب أعينها هزيمة العدو المشترك بخطط إبداعية وإدارة حكيمة تدرس أحوال الزمان والمكان، بل انها بجلَدها وصبرها وتضحياتها جعلت الشعوب الحرة قاطبة تنظر الى فلسطين كقضية حقّ وعنوان للعدالة الإنسانية في العالم…