سبحان الذي غير الأسماء كلها، وسبحان الذي قلب الموازين كلها، وقلب المفاهيم؛ "كريات ملاخي" التي جرت فيها عملية ذئب فلسطيني منفرد اليوم، قرية قسطينة المهجرة عام 1948، وبجوارها بلدة المسمية الكبيرة التي تقع على تقاطع الطريق إلى المجدل، وتحيط بها قرى يازور، وبشيت، وقطرة، والمخيزن، تلك قرى كانت تتبع لواء غزة، ومن بين المقاومين من الذئاب غير المنفردة في غزة اليوم، هم من أحفاد من هجّروا من تلك البلدات التي هي من أعمال غزة.
انقلبت الموازين، انقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، ولكن البون شاسع بين ما يعتقده اليمين الإسرائيلي، وما هو واقعي، فإيتمار بن غفير وجد أن السلاح ينقذ حياة الإسرائيليين، لأن الذي قتل منفذ العملية كان مدنياً يحمل السلاح، ولكن السلاح لا ينقذ حياة الإسرائيليين، وإلا لما سقط قتلى في العملية التي جرت على أرض قَسطينة المهجرة بعد 76 عاماً على احتلالها.
لا أحد يستطيع منع ذئب منفرد من التسلل والتخفي، منفذ العملية هذه المرة اعتمر "الكيباه" على رأسه، القلنصوة الدينية اليهودية، وأطلق لحيته، يعني أنه تقمص دور "المستهودين" رداً على "المستعربين" من قتلة الشعب الفلسطيني. السلاح في أيدي المستوطنين لا يحميهم، ومعادلة الأمن لشعب إسرائيل لا يمكن ضمانها بالحلول العسكرية وشعارات إبادة الفلسطينيين.لا حل لأمن إسرائيل إلا بمنح الشعب الفلسطيني حقوقه غير المنقوصة، وغير ذلك هراء في هراء، ووهم، واستعلاء.
فشلت الاستخبارات الإسرائيلية في عملية قسنطينة، وفشلت في السابع من أكتوبر، وفشلت في عملية تل أبيب، وفشلت في عملية القدس، وستستمر حوادث إطلاق النار، أو الدهس، أو الطعن، وهي عمليات قابلة للتطور والتصعيد والارتقاء في السلاح والأسلوب والأمكنة، ولا تستطيع إسرائيل حماية مواطنيها بقوة السلاح، ولن تستطيع تحقيق الإبادة للشعب الفلسطيني، ولن تستطيع تدجينه، أو إرهابه، أو محوه من على وجه أرضه، وما يحدث في غزة، سيترك آثاره العميقة، وسيكون له ارتدادات تستهدف حياة الإسرائيليين وأمنهم.
لن تستطيع إسرائيل تفكيك حماس، ولا فصائل المقاومة، ولن تستطيع السيطرة على ذئب منفرد، وذئاب فلسطين أضعاف كلاب إسرائيل، وجند حراستهم، ولن تستطيع القضاء على المقاومة في جنوب لبنان، ولا اجتثاث ما تطلق عليه "الإرهاب"، والحل الوحيد لإسرائيل هو أن تلجم يمينها، ويمين يمينها، وأن تتعقلن، وتختصر الطريق على نفسها، وأن تعتبر من التاريخ، وتنزل عن الشجرة، وأن تفاوض دون غطرسة، وأن لا تفاخر بإطلاق سراح محتجز أو أكثر من بين أكثر من نحو مائة في غزة ما زالوا على قيد الحياة، أن يتوقف نتنياهو عن الكذب على نفسه وشعبه، وأن يتوقف غالانت عن الكذب، وكذلك رئيس الأركان، فالخسائر في غزة بين صفوف جيش المحتل غير مسبوقة، وضخمة، وجسيمة، وموجعة.
إسرائيل غارقة في الكذب والإنكار، وأول الكذب في إعلان الخسائر، الإفصاح، والاعتراف بالهزيمة، وعدم القدرة على مواصلة العدوان بثمن نخس، ولولا ذكاء فصائل المقاومة بتصوير مشاهد الاشتباك، ربما لصدق البعض السردية الإسرائيلية في معارك غزة، لكن المشاهد البطولية التي ما انفكت القسام على نشرها، وإلى جانبها سرايا القدس، فاضحة وموجعة ومؤلمة، وسينفلت الحبل من يد زعماء إسرائيل، وينفلت اللجام، ولن تستطيع إن استمر القتل في غزة، أن توقف العنف بعد أن يتسع، وتتوسع معه ساحات المواجهة. لا حل لإسرائيل سوى النزول عن الشجرة، واللجوء إلى التفاوض دون غرور وغطرسة وكذب.