غزة ما زالت وحدها
مقالات
غزة ما زالت وحدها
عامر طهبوب
12 شباط 2024 , 08:24 ص

الفرق بيننا وبين عدونا، ليس فقط التفوق التكنولوجي والعسكري، وإنما "النَّفَس"؛ نفسنا قصير، صبرنا قليل، قدرتنا على مواصلة الحزن قليل، هبّتنا لحظية، دمعتنا مبتورة، والعدو استراتيجي وصاحب نفس طويل، حتى متابعتنا للفظائع في غزة خفتت، اعتدنا المجازر، ألفنا صور الشهداء وهدم المنازل، صار العدوان عادة يومية في حياتنا، واحتلنا الضجر، ليس الضجر من العدوان، ولكن من حرمان بممارسة الأشياء التي نحبها، والانطلاق لنشر ما نحب نشره على وسائل التواصل دون وجل أو خجل أو استحياء أو تردد.

ما أسوأ الاعتياد عندما يتعلق بحياة الناس، أن تعتاد رؤية معاناة الناس في الخيام، وجوع الأطفال، وعطش النساء، وأن تتقبل فكرة أن أهل غزة يأكلون علف الحيوانات، وهذا إن وجد، وأن تتقبل مقتل الطفلة هند رجب قنصاً في سيارة أقلتها مع خالها بشار وأسرته في شارع يحمل اسم الجامعة العربية في شمال غزة، وأن تتقبل فكرة وجودها في انتظار الموت لمدة ساعات في سيارة بين خمسة جثث تحيط بها في المقعدين الأمامي والخلفي، حيث اغتيلت ابنة خالها ليان، وأن تتقبل استهداف سيارة الإسعاف التي جاءت لإغاثة هند بعد التنسيق مع قوات الاحتلال من قبل الصليب الأحمر الدولي، واستشهاد المسعفين يوسف زين، وأحمد المدهون، وأن تتقبل مشهد قنص أم وطفلها في حي الشيخ رضوان وهما يهربان من حمم الموت، وأن تتقبل حقيقة أن عدد الشهداء من القتلى، تجاوز ثلاثين ألفاً.

وعندما نتحدث عن معاناة أهل شمال غزة البالغ عددهم اليوم ثلاثمائة ألف نسمة، نسأل: لماذا استهدفت مستشفيات الشفاء، والعودة، والمعمداني، والرنتيسي، ولماذا قصفت شاحنات المساعدات التي حاولت قطع الطريق نحو الشمال، ولماذا قصف من وقف في ميدان بانتظار استلام كمية من الطحين، ولماذا تم تعرية الرجال واقتيادهم، ثم التنكيل بهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وقتل بعضهم، ولماذا ألقيت الجثث فوق أكوام المهملات حتى تحللت، لماذا التجويع، والتعطيش، والخنق إلى هذا المدى؟ الجواب واحد وواضح ومعروف: تهجير هذه الأعداد الباقية، ودفعها للبحث عن لقمة العيش في الجنوب، وإفراغ غزة من كل سكانها.

ولماذا تستهدف إسرائيل المناطق التي تعلن أنها آمنة؛ في دير البلح، والمواصي، وغيرها، ثم لماذا تستهدف خان يونس، ولماذا تقصف رفح على الحدود مع مصر؟ الجواب واحد وواضح: حتى يثق كل سكان القطاع ثقة مطلقة، أن لا مكان آمن على الإطلاق، ولماذا تجهز إسرائيل قواتها الغازية للتوجه براً إلى رفح؟ الجواب واحد وواضح: دفع السكان لعبور الحدود المصرية نحو العريش، دفعهم لاقتحام الحدود بحثاً عن لقمة العيش، وهرباً من قصف الطائرات والدبابات، ولماذا يعتلي القناصة المباني في كافة قطاع غزة؟ الجواب واحد وواضح: حتى يتأكد الفلسطيني أن الرصاص سيقتله من حيث لا يدري، وأنه لا يستطيع حماية نفسه مهما فعل، طالما بقي على أرض غزة.

هل اعتدنا الألم، هل ألفنا الحزن، هل "حسبي الله ونعم الوكيل" سلاحنا الوحيد في مقاومة العدون، وفي التصدي إلى فظائع غير مسبوقة في التاريخ الحديث؟ هل مؤتمر قمة عربية وإسلامية كافياً لوقف العدوان؟ هل المظاهرات الأسبوعية في بعض عواصم العرب، ستوقف جيش الاحتلال؟ وهل ما يحدث في الضفة الغربية من اقتحامات نهارية وليلية بصورة يومية لا تتوقف، ستصبح مألوفة؟ هل استمرار اعتقال الفلسطينيين بصورة يومية من بلدات وقرى فلسطين، أصبح اعتيادياً في ضوء ما يحدث في غزة؟

هل ستتوقف المجازر؟ هل يمكن للعالم، الحديث عن اليوم الثالث بدلاً من مواصلة نقاش ما سيكون عليه حال غزة في اليوم الثاني؟ وهل الولايات المتحدة معنية اليوم بوقف العدوان، وهل سيستجيب "الرئيس المكسيكي" لمطالبة بايدن لفتح المعبر، وهل سيفتح المعبر لإدخال المساعدات، أم لتفريغ غزة من سكانها عبر معبر رفح؟ ألف "هل"، والأجوبة مؤجلة. غزة وحدها، ماتت وحدها، قاومت وحدها، جاعت وحدها، والهبّة الشعبية في عواصم العرب والغرب، على أنها غير مسبوقة، إلا أنها دون مستوى الموت، ودون مستوى الحياة، وأما حكومات الغرب فدون مستوى الأخلاق، وأما حكومات العرب، فهي بلا شك، دون مستوى التحدي والمسؤولية، وغزة ما زالت وحدها، والله من وراء القصد.