كتبت الأستاذة هبة دهيني.
بعد كلّ خطابٍ استعماريٍّ يرميه المُحتلّ على وجه منطقة الشّرق الأوسط، تعمد كُلٌّ من واشنطن وتلّ أبيب، لإعادة بناء خطّتهما الاستعماريّة المعروفة بالشّرق الأوسط "الجديد"، إذ لم تكتفِ هذه الأخيرة بتقسيم جغرافيا المنطقة عام 1916 باتّفاقيّة سايكس-بيكو، بل وتطمح لإعادة رسم الخريطة التي كانت عليها دول الشرق الأوسط، بما يتناسب مع الهيمنة الأميركية في المنطقة، ويتخالط مع مشروع "إسرائيل" الاستيطانيّ.
وبما أنّ "إسرائيل" قد غُرست في قلب عالمنا العربيّ لتحقيق هدفها النّاجع، بتقسيم منطقتنا، إذ إنّ تماسك وترابط هذه الأخيرة يعني ثقلًا استراتيجيًّا وعسكريًّا وسياسيًّا معوّقًا للأطماع الاستعمارية الغربية، "فإسرائيل" هذه، لا زالت تُلفظُ في عالمنا لعنةً يجب الخلاص من نَيرها، هذا ما واجهتهُ في حرب 2006، حين صار دحرُ المحتلّ وخطّته "الجديدة"، دَيدَن المقاومة اللبنانيّة.
ففي إطار الخطّة التّقسيميّة الاستيطانية، يصبح الكيان المحتلّ مغروسًا في الجسد العربي، "قائدًا" مرشّحًا من قبل البيت الأبيض، حتى يزعزع أمن المنطقة حاملًا شعار "السّلام" الملطّخ بدماء العرب، إذ إنّ "أمريكا" هذه، بعد أن ذاقت مرارة الفشل في العراق وأفغانستان قررت أن تعهد لإسرائيل بتنفيذ مخططها الاستعماري عبر تدمير لبنان كي يدور في فلك المصالح الأميركيّة، إذ تتعامل هذه الأخيرة بأسلوبها الواهي، وبالاتفاق مع الكيان المحتلّ، أنّ هذه المساحة تقطنها جماعات دينية وإثنية، ويجب أن تنصاع لمطالب الحركة "الصهيونية".
في بداية الثمانينات، وتحديدًا عام 1982، بدأ رسمُ مشروع "إسرائيل الكبرى" للمنظّر الإسرائيليّ أودد-ينون، لخلق "مدن طوائف صغيرة"، تدين بالولاء للكيان الإسرائيليّ المحتلّ، وبعد ذلك بعقدٍ واحد، برزت خرائط الشرق الأوسط، التي رسمها المستشرق الأميركي "برنارد لويس"، الّذي طلب "بتغيير شكل المنطقة"، أمّا بعد، فقد اشتهرت خرائط تقسيمهم أكثر عام 2006، لما يعرف بخريطة "حدود الدم"، وقد انطلت عليهم الحيلة بمسمّياتهم، أولئك الّذين يعرفون كيف يرسمون بدمائنا حدود "مخطّطاتهم"، وأخرى باسم خريطة ذا أتلانتيك. جاءت المقاومة اللبنانية فقوّضت وهدّمت "أساطير" المحتلّ الّذي ظنّ أنّه سيُريّمُ في لبنان، وسيبني "حضاراته" المزعومة على أعناقنا، مستوليًا على منطقة الشرق الأوسط بما تحتويه من ثروات نفطية وممرات بحرية هي الأهم في العالم، كمنطقة حيوية ذات أهمية استراتيجيّة بالغة.
من هنا، فقد وضعت حرب تمّوز أوزارها في الرابع عشر من آب 2006 بعد ثلاثة وثلاثين يومًا، من دون أن تحقّق آلة الحرب الإسرائيليّة الأهداف التي رسمتها، فلم يُقضَ على المقاومة، ولم تُهزم، بل ألحقت الهزيمة بالمُحتلّ، وبات من السهل الوصول إلى نتيجة واضحة، بأن "كونداليزا رايس" -ومن حذا حذوها في خطّتها المزعومة- لم تنجح في رؤية "الشرق الأوسط الجديد"، حلمها الّذي تمنّت تحقيقه، وتوقّعت ولادته مذ بدأ مخاضه قبل سنوات، مع بداية الحرب.
واليوم، يظهر نتنياهو داعيًا "للسلام" المزعوم، بخطاب ألقاه في الأمم المتحدة، يتمحور بالكامل حول آفاق وآثار اتفاقيات التطبيع، ودور ذلك في "تغيير" الشرق الأوسط، هذا ما أرجعنا إلى خطاب وزير مالية حكومته "بتسلئيل سموتريتش" عندما عرض خريطة "لإسرائيل" في باريس، تضم الأردن والأراضي الفلسطينية، وعلّق قائلًا "لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني!"
إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، كانت ولا تزال هاجسًا لدى "دولة" الاحتلال وحليفها الرّئيسيّ "الولايات المتّحدة الأمريكيّة"، من عام 2006 في واشنطن، حين روّجت للخطة وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس"، من بعد ما كان قد رسمها الجنرال الأميركي السابق "رالف بيترز" لإعادة تشكيل الجغرافيا في المنطقة على أسس طائفية ودينية وعرقية، الفكرة نفسها طرحها الرئيس الإسرائيلي السابق شمون بيريز في كتاب يدعو فيه إلى شرق أوسط جديد مبني على المصالح المادية، وصولًا إلى صفقة القرن، والخطط الّتي يدعو إليها بايدن في إدارته.
وبالعودة بضعة أشهر إلى الوراء، حين أعلنت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها عن خطة بناء طريق تجاري وسكك حديدية تربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا، في مؤتمر مجموعة العشرين، وبحسب ما نشر، سيشارك العدوّ في بناء هذه البنية التحتية وخطوط الشّحن، وهذا تمامًا الممر الذي رسمه نتنياهو "بالأحمر"، خطّ سكك الحديد هذا، أو "ممرّ السّلام" كما يسمّيه نتنياهو الّذي اعتاد بناء "سلامه" المزيّف بالأحمر القاني على أجساد شهدائنا، هو مشروعٌ "فاشل" بنتهُ كلٌّ من واشنطن وتلّ أبيب منذ عقود، وفشل، وسيظلّان يبنيانِ فيه، على أسسٍ واهية، فكما أسقطتِ المقاومةُ في لبنانَ من قبلُ هذا المشروع الاستيطانيّ، ستُسقطه مجدّدًا اليوم، يدًا بيدٍ مع المقاومة في فلسطين، وعلى كلّ جبهات النّضال، فكلّ ما بُني على باطلٍ زائلٌ، وكلُّ ما بُنيَ على حقٍ باقٍ!