ليست المرة الأولى التي نتحدث فيها عن الكلمة وأهميتها في حياة الإنسان، بل وفي تحديد مصيره ومستقبله، فقد جاء شهر رمضان هذا العام وأنا متخم بالأعباء سواء الخاصة أو العامة، وشهر رمضان بالنسبة لي له طقوس خاصة، فعلى عكس الكثيرين الذين يقضون أيام الشهر الفضيل أمام شاشات التلفاز، أجد الوقت سامحاً لإنجاز كثيراً من الأعمال المؤجلة، خاصة القراءات فأخصص جزء كبير من الوقت لقراءة الكتب التي لا تسمح ظروف الحياة اليومية بعيداً عن رمضان من قراءتها، وبالطبع معظم هذه الكتب بعيدة عن مجال تخصصي العلمي، ومع حالة الإجهاد والإعياء التي أصابتني قبل قدوم رمضان نتيجة الاشتباك مع العديد من الملفات والقضايا الإشكالية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، قررت أن أستغل الأيام الأولى من شهر رمضان لأخلد للراحة والاسترخاء وأتفرغ بعض الوقت للعبادة والتأمل في ملكوت الله.
ونتج عن ذلك أن ظللت لعدة أيام أتأمل في مصطلح الكلمة، وأهميتها في حياة الإنسان، وتأثيرها في مصيره، بل انتقلت من الخاص إلى العام لأتأمل في أهمية الكلمة في حياة الشعوب والمجتمعات، وتحديد مصير الدول ووضعها ومكانتها على المستوى الإقليمي والدولي، وهنا وقبل البوح بنتائج ما توصلت إليه من عملية التأمل في أهمية وتأثير الكلمة في حياتنا وتحديد مصائرنا، وجب الوقوف أمام الكلمة لبحث واستجلاء معناها، والكلمة في اللغة هي لفظة واحدة تتركب من بعض الحروف الهجائية، وتدل على معنى جزئي، وصفات الكلمة هي النطق، والدلالة على معنى، والإفراد، وأنواع الكلمة هي اسم، وفعل، وحرف، والكلمة من حيث العدد هي مفرد، ومثنى، وجمع، وحالات الكلمة هي فعل ( ماض، مضارع، أمر)، واسم، ونعت، وحال، ومفعول به، ومفعول لأجله، ومفعول مطلق، وبناء على ذلك فالكلمة هي الوحدة الصغرى التي تتشكل منها اللغة والكلام وهو القول أو الجملة المفيدة، والوسيلة الحقيقية للتواصل والتفاهم والتفاعل بين البشر.
وبعد التعرف على معنى الكلمة نأتي لتسجيل أهميتها وتأثيرها في تحديد مصير الإنسان أولاً، فبالكلمة يحيا الإنسان وبها يسعد، وبها يشقى أيضاً، فالكلمة الطيبة ترفع من معنويات الإنسان وتساعده على العمل والاجتهاد والنجاح والتفوق وبالتالي على الإحساس بالرضا والشعور بالبهجة والسعادة، والكلمة الخبيثة تخفض من معنويات الإنسان وتجعله غير قادر على العمل والاجتهاد والنجاح والتفوق، وبالتالي على الإحساس بالفشل، والشعور بالإحباط واليأس، وهنا يمكن رصد المواقف الحياتية التي يمر بها الإنسان والتي تترجم عبر الكلمات فإما تصنع نجاحه وسعادته، أو تصنع فشله وتعاسته، بل لا نبالغ إذا قولنا أن الكلمة قد تكون قاتلة، فكم من معارفنا مرت عليهم مواقف سمعوا فيها كلمات قاسية لم يستطيعوا تحملها فتوقفت قلوبهم وانتهت حياتهم.
أما أهمية وتأثير الكلمة في تحديد مصائر الشعوب والمجتمعات والدول، فبالكلمة تعلن الحروب، وتشتت وتقتل الشعوب، وتفكك وتهدم المجتمعات، وتنهار وتزول الدول، ولنتأمل ما يحدث لشعبنا العربي الفلسطيني في قطاع غزة عبر ما يزيد عن خمسة شهور الآن، فبكلمة بدأ العدوان، وبكلمة تحركت الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة صوب قطاع غزة فقامت بقتل الأطفال والنساء والشيوخ بدمً بارد، وبكلمة قامت المدفعية بقصف عنيف لم يبقي حجراً فوق حجر، وبكلمة تم إشعال النيران وحرق الأشجار، وإذا كانت الكلمة هنا هي فعل تدمير فيمكنها أيضاً أن تكون فعل بناء وتعمير، فإذا كانت هناك إرادة وضمير جمعي عالمي لأجبر وبكلمة هذه الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة على التوقف الفوري عن العدوان، وبكلمة أيضاً أجبرها على فك الحصار ودخول المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني الذي يموت عطشاً وجوعاً تحت الحصار، أتدركون الآن أهمية وتأثير الكلمة في حياة ومصير الإنسان والشعوب والمجتمعات والدول.
ولم أجد ما يمكن أن أختم به تأملاتي عن معنى الكلمة وأهميتها وتأثيرها، في حياتنا اليومية، بأروع ما كتب عن الكلمة في حوار بين الوليد بن عتبه رسول يزيد بن معاوية للإمام الحسين بن علي من أجل أخذ البيعة، وذلك في مسرحية الحسين ثائراً التي كتبها الروائي الكبير عبد الرحمن الشرقاوي، حيث أعتبر الوليد البيعة مجرد كلمة فجاء رد الحسين: " أتعرف ما معنى الكلمة ؟ مفتاح الجنة في كلمة، دخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة، زاد مذخور، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري، الكلمة فرقان بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور، ودليل تتبعه الأمة، عيسى ما كان سوى كلمة، أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين، فساروا يهدون العالم، الكلمة زلزلت الظالم، الكلمة حصن الحرية، إن الكلمة مسؤولية، إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة "، فبكلمة يمكن أن تنكشف الغمة في غزة، إذا توحدت كلمة العرب والمسلمين وكل أحرار العالم، اللهم بلغت اللهم فاشهد.
بقلم / د. محمد سيد أحمد