كتب الأستاذ خضر رسلان:
عادة ما يؤكد السواد الأعظم من المؤرّخين عبارة «إنّ الذي لا يقرأ التاريخ يكرّر أخطاءه» والحقيقة أنّ قراءة التاريخ وأخذ العبر منه من الضرورات الحتمية للإنسان والمجتمعات على حدّ سواء.
فهو مصدر إثبات لوقائع وأحداث من شأنها إذا ما تمّ ربطها بالحاضر تكوين رؤية واستشراف لمستقبل أكثر وضوحاً، وذلك بعد استلهام الأحداث التاريخية على تنوعها وربطها بالحاضر بما يحويه من أطياف ومكونات وأحزاب،
من أبرز فوائد استدعاء التاريخ أنه يمدّنا بجانب مهمّ من العبر والمعارف التاريخية التي أفرزتها الأزمنة الماضية، لأنّ التاريخ بأحداثه ووقائعه ليس إلا حلقات زمنية متصلة يشمل الماضي والحاضر والمستقبل. واذا ما نقلنا نتائجها من سياقها الزمني لدمجها في تفاعلات الحاضر نستطيع إدراك طبيعة التحوّلات الجذرية التي تحدث وكأنّ التاريخ يعيد نفسه.
السؤال الذي يطرح نفسه بناء على علم التاريخ وقواعده وتجاربه وعبَره ما هو الخطاب او الموقف الجديد الذي جاء به لقاء معراب؟ ومن هو الفريق او الجهة التي تمّ التوجه اليه؟ وما هو الهدف المرجو منه؟ ومن هي الجهة المستفيدة من رفع هذا الصوت او الثمرة المتوقعة التي يمكن قطفها نتيجة لذلك؟
قبل الشروع في قراءة الخطاب سواء بعيداً عن الفريق الذي أطلقه او الذي تمّ توجيهه اليه، لا بدّ من التعريج نحو متن الخطاب الذي هو القرار 1701. وانسجاماً مع المنهج التاريخي يصبح لزاماً قراءة ظروف إصدار هذا القرار والجهة التي أصدرته وأسبابه الموجبة والجهات المستهدفة لتطبيقه…
بعد 33 يوماً من مقارعة الشعب اللبناني ومقاومته للعدوان الإسرائيلي على لبنان صدر قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701، في 11 آب 2006، والذي بموجبه تمّ وقف إطلاق النار في يوم الإثنين 14 آب الساعة الثامنة صباحاً بالتوقيت المحلي، ويتضمّن القرار الذي يبدو لم يطلع عليه الحاضرون في لقاء معراب، وقف الأعمال الحربية ومن ضمنها طبعاً وقف الخروقات سواء منها الجوية او البرية أو البحرية وتسليم «إسرائيل» الأمم المتحدة خرائط الألغام التي زرعتها في لبنان، وسحب كلّ قواتها من جنوب لبنان ومن ضمنها قرية الغجر، فضلاً عن الطلب من الأمين العام للأمم المتحدة أن يقدّم إلى المجلس اقتراحات خلال ثلاثين يوماً بشأن إجراء ترسيم دقيق للحدود اللبنانية بما فيها منطقة مزارع شبعا. وهذه بنود لم تتحقق البتة ولا يبدو أنها سقطت سهواً من حسابات لقاء معراب، إلا أنّ ذلك يبدو طبيعياً اعتماداً وبناءً على السياق التاريخي الذي يظهر في حدّه الأدنى منذ نشأة الكيان الغاصب على حدوده الجنوبية وجود نزعتين واتجاهين تقرآن في كتابين مختلفين، كحال كتاب التاريخ اللبناني الذي تعدّدت رواياته، والأخطر منه انّ هناك من نسب اللصوصية والأعمال الجرمية الى قامات واجهت الاحتلال والاستعمار الأجنبي بينما في الوقت نفسه هناك من مجّد أشخاصاً وجهات تواطأت على شعبها وارتهنت للمستعمرين، والأخطر منهم من سهّل الدروب لإنشاء الكيان «الإسرائيلي» سواء عبر بيع الأراضي الفلسطينية للغزاة الصهاينة، او تحبيط عزائم الناس في مواجهة المشروع «الإسرائيلي».
نزعتان لا زالتا تتصارعان تتبدّل فيهما الوجوه وتتنوّع فيهما الأساليب والظروف. الا انّ منطق التاريخ لا يزال يفرض نفسه وهناك من تعلم منه وانكفأ، وهناك من لا يزال يراهن على متغيّرات وآمال ترمّم له إخفاقاته وحساباته الخاسرة بدءاً من اجتياح 1982 الذي أراد صانعوه ان يغيّروا فيه وجه المنطقة ويلحقوا لبنان بأكمله ضمن المشروع الصهيوني، فإذا بهم يفرّون حفاة من شرق صيدا وجبل لبنان مذعورين الى غيتو منغلق أرادوا إنقاذهم منه عبر اتفاق ثلاثي تتحقق فيه شراكة وطنية تمّ سحقها بدماء شركائه من أبناء جلدته مروراً بمعارك الإلغاء، الى حروب الإسناد لإسقاط الدولة السورية وتسهيل بل تشجيع النزوح السوري الى لبنان لا لغايات إنسانية بل تنفيذاً لأجندات سياسية وخيارات خائبة كان التمعّن في قراءتها والاستفادة من عبرها كفيلاً بعدم الانجرار الى أفدحها وأكثرها تعبيراً عن المكنونات التي لا تبني شراكة كحال نداء معراب الذي رغم هزالته وهرم أصحابه يطرح سؤالاً يجري تداوله في الكثير من المنتديات عن جدوى الاستمرار والحديث عن صيغ وهيكليات بالية ارتدّت سلباً على غالبية الشعب اللبناني تحت عناوين الحساسيات الحزبية والطائفية. فهذا المواطن الجنوبي من جميع أطيافه ومكوناته يتلقى السهام والاعتداءات الصهيونية في دمائه وعياله ودوره وأرزاقه، ومنذ قيام الكيان الصهيوني ونداءات أعيان جبل عامل ومنذ أواسط القرن الماضي تناشد الدولة وقواها لحماية أهل الجنوب من الاستباحة «الإسرائيلية» ولا من ناصر ولا معين بل حتى لا آذان صاغية وعندما يصبح للجنوب ولبنان مقاومة شامخة تحمي وتبني وتردع وتردّ الصاع صاعين يأتي من يصدح بصوته ملقياً خطابه ان اتركوا الساحة لجيش سلاحه الناري لا يجيز واهبوه انّ يوجه نحو الصهاينة، وحادثة شجرة عديسه لم تجفّ دماء أبطالها بعد…
وماذا بعد وماذا عن المؤرّخين الذين يقولون انه من لا يقرأ التاريخ يكرّر أخطاءه، حتى نستفيد من التاريخ ونأخذ العبر ينبغي صياغة مفاهيم مواطنة جديدة تقوم على الشراكات الوطنية غير الطائفية تنشد العدالة وترفض التبعية وتنبذ المناشير التي يطلقها الشركاء على الوطن الآتين من خارج التاريخ وسياقاته كحال لقاء معراب الأخير…