بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
كشر الأمريكيون عن أنيابهم، وأسفروا عن حقيقة موقفهم، وصدموا كل المراهنين عليهم خلال زيارة وزير خارجيتهم أنطوني بلينكن الأخيرة وهي الحادية عشر منذ بدء العدوان الإسرائيلي إلى المنطقة، التي أعلن فيها بعد لقاءٍ مطولٍ مع رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، أن الصفقة أصبحت جاهزة، وأن إسرائيل موافقة عليها وجاهزة لتطبيقها والالتزام بها، وقال أنه سمع من نتنياهو شخصياً موافقته عليها وتأييده لها.
واعتبر أن الكرة الآن أصبحت في يد حركة حماس، ودعاها إلى التعجيل بالقبول بها والموافقة عليها، ودعا الوسيطين المصري والقطري للضغط عليها، ودفعها للقبول بالصيغة المطروحة، التي تمثل بارقة أمل حقيقية، وتعتبر الفرصة الأخيرة للاتفاق، والمباشرة في إعداد الخطط العملية لوقف الحرب، وإدخال المؤن والمساعدات، واستعادة "الرهائن والمخطوفين" الإسرائيليين، والبدء في التفاوض على المراحل التالية.
وحذر بلينكن الأطراف كلها، دولاً وأشخاصاً وكياناتٍ، من مغبة معارضة الصفقة أو عرقلتها، وتعطيل تنفيذها أو رفضها، لكنه لم يقصد بتحذيره الكيان الصهيوني ورئيس حكومته، فهو يعتبر أن مواقف نتنياهو الأخيرة إيجابية ومعقولة، وقد أظهر مرونةً كافية، وقدم تنازلاتٍ كبيرة، وأبدى استعداده لدفع أثمانٍ باهظة ثمناً لاستعادة "الرهائن والمخطوفين".
وإنما قصد بتحذيره الصريح والمبطن، حركة حماس وأطراف محور المقاومة، وحملها كامل المسؤولية عن تبعات رفض الصفقة أو الاعتراض عليها، محذراً الجميع أنها الفرصة الأخيرة، وأن الوقت قد آن لفرضها وتنفيذها، وأشار أنه يمكن خلال المرحلة القادمة التي تلي الموافقة على الصفقة، العمل على سد الفراغات وجسر الخلافات للوصول إلى صيغة مقبولة ومتفق عليها، لكن ينبغي على حركة حماس أولاً التعجيل بموافقتها وعدم تضييع الفرصة المتاحة.
يظن بلينكن ومعه نتنياهو أنه يتذاكى على الشعب الفلسطيني ومقاومته، وأنه يستطيع بالحيلة والمكر أن يصل إلى غايته ويحقق أهدافه ونتنياهو، وأن تصريحاته وتحذيراته يمكن أن تنطلي على الفلسطينيين، فيقبلوا بها ويسقطوا في الفخاخ التي نصبوها لهم، وأعدوا عدتها وهيأوا كل شيءٍ لها، تحت سيف التهديد بمواصلة القصف واستمرار الحرب، وسقوط المزيد من الشهداء والجرحى، واستمرار الحصار ومواصلة التجويع والحرمان، وكأنه يقول للفلسطينيين أنتم بالخيار بين أمرين، إما القبول بالصفقة المعروضة، التي وافق عليها نتنياهو، رغم أنه لم يصرح بنفسه عنها، أو تحمل كامل المسؤولية عن استمرار الحرب وسقوط المزيد من الضحايا.
الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أن الإدارة الأمريكية لا تريد وقف الحرب ولا إنهاء العدوان، بل إنها كما كانت شريكةً للكيان في عدوانه منذ الأيام الأولى، فإنها ما زالت على سياستها لم تتغير، ولم تبدل في مواقفها رغم اتضاح الصورة وتغير المزاج الدولي العام، بل إنها تمعن كل يومٍ أكثر في تطرفها وتأييدها للسياسات الإسرائيلية، وقد بالغت في صمتها على إجرامه، بل ذهبت إلى تبرير جرائمه، والدفاع عنه في كل المناسبات والمنتديات، ومن على كل المنابر والصروح، بحجة أن ما يقوم به إنما هو عملٌ مشروعٌ بحجة الدفاع عن النفس، والعمل على استعادة "مواطنيها" المخطوفين لدى حركة حماس.
وهي تريد بوضوحٍ وسفورٍ، وصراحةٍ ووقاحةٍ، بالتوافق مع نتنياهو أو بالانصياع له والقبول بأفكاره، والخضوع لشروطه والتبعية له، إعادة احتلال قطاع غزة، وتمكين الجيش فيه، وتعزيز تواجده على معابره وفي وسطه، وسيطرته على محور صلاح الدين الحدودي مع مصر ومعبر رفح، وتثبيت تواجده في محور نتساريم وسط القطاع، ليفصل شماله وجنوبه، ويتحكم في سكانه وأهله، ويسهل عليه انطلاقاً منه تنفيذ عملياته العسكرية، والقيام بمداهمات واقتحامات واجتياحات لمناطقه، والتضييق على المواطنين الفلسطينيين والتحكم في انتقالهم وتنقلهم، وقتلهم بحجة الاشتباه، واعتقالهم بتهمة المقاومة والتخطيط لها أو التفكير فيها.
لا تفكر الإدارة الأمريكية رغم أنها راحلة وغير باقية، بوقف الحرب كلياً على قطاع غزة، وانسحاب جيش الاحتلال منه، رغم تصريحاتها المعلنة، وتحذيراتها المتكررة، ودعواتها لضبط الصراع والعمل على عدم اتساعه، وهي لا تريد أن تخرج المقاومة سالمةً من الحرب، أو قادرة على ترميم نفسها وإعادة تنظيم صفوفها، وتدرك أبعاد فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهدافه، وانكسار شوكته وتراجع هيبته، ومخاطر نجاح المقاومة بالبقاء، على الكيان أولاً وعلى الدول العربية ثانياً، فنجاح حماس في الصمود والبقاء، يعني فعلاً التمدد والانتشار، والتوسع والاستمرار، الأمر الذي من شأنه أن يخلق تداعيات سلبية في الإقليم ودول الجوار.
إن الرهان على الإدارات الأمريكية سفهٌ وقلة عقل، وهو مضيعةٌ للوقت وإحباطٌ للأمل، فهي لا تحقق لنا شيئاً، ولا تهتم بمصالحنا، ولا تسعى لمساعدتنا، ولا تأتي إلى المنطقة لنجدتنا، ولا ترفع الصوت عالياً لإغاثتنا، اللهم إلا أن يكون ذلك نافعاً للعدو ومفيداً له، وموافقاً عليه ومنسقاً معه.
أما حسن الظن فيها أنها أصبحت في أواخر أيامها عاقلة، وفي نهاية عهدها رشيدة، فهو قلة وعيٍ ونقصُ خبرةٍ، وجهلٌ بها وعدم فهمٍ لها ودرايةٍ بها، فها هي تجن أكثر، وتصاب بالخرف كرئيسها وتفقد صوابها وتضل طريقها، وتصدر عنها مواقف "هبلة"، وتفرض علينا شروطاً "سخيفةً"، وتصدر تصريحاتٍ "جوفاء"، فإياكم والظن بها خيراً، أو الاعتماد عليها والاطمئنان إليها، فهي عدوٌ كإسرائيل، وهي مجرمةٌ كالكيان وأكثر.
بيروت في 24/8/2024