مقياس النصر والهزيمة في المعارك غير المتكافئة.. طوفان الاقصى نموذجاً
مقالات
مقياس النصر والهزيمة في المعارك غير المتكافئة.. طوفان الاقصى نموذجاً
محمد النوباني
18 كانون الثاني 2025 , 13:11 م

كتب الأستاذ محمد النوباني

حتى قبل ان تضع الحرب اوزارها في قطاع غزة إنقسم الناس في بلادنا بين من يرى بأن غزة إنتصرت وفرضت على اعدائها ليس القبول فقط بوقف إطلاق النار بل بالقبول ايضاً بصفقة طال إنتظارها لمبادلة أسرى إسرائيليبن محتجزين في غزة منذ السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣ بآلاف من الأسرى الفلسطينيين بمن فيهم أسرى من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات وقادة بارزين في الحركة الوطنية كمروان البرغوثي واحمد سعدات، ،وبين من يرى بأن ما حصل ليس إنتصاراً بقدر ما هو مغامرة جنونية ادت إلى استشهاد وجرح اكثر من ١٥٠ فلسطيني وتدمير إقتصاد القطاع وجعله مكاناً غير صالح للعيش.

ولكن وقبل ان نرى ايا من وجهتي النظر هي الصحيحة لا بد من الإشارة إلى حقيقة مهمة وهي أن من يراجع تجارب الشعوب يدرك بدون عناء أن الحروب التي إنتصرت فيها الدول التقدمية وحركات التحرر الوطني على قوى العدوان والهيمنة والتوسع لم تكن النتائج فيها تحسب بكم الخسائر البشرية والمادية وحجم الدمار الذي وقع في العمران بل بالنتائج السياسية وهل قربتنا تلك المعركة العسكرية من تحقيق اهدافنا في الحرية وتقرير المصير وإقامة الدولة ام ابعدتنا عن تلك الاهداف؟.

وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد فجر الشعب الجزائري الشقيق العديد من الثورات ضد الاستعمار الفرنسي لبلاده على مدار ١٣٠ عاما خسر خلالها ملايين الشهداء ولكنه في النهاية حرر أرضه وانتصر كما خسر الإتحاد السوفياتي السابق أكثر من ٢٠ مليون مواطن ومقاتل في حربه الوطنية العظمى ضد المانيا النازية وكذا خسر الفيتنامبون ملايين الأشخاص في حربهم ضد الغزو الفرنسي ثم الامريكي لبلادهم.

وما جرى في معركة طوفان الاقصى التي دارت رحاها منذ السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣ بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والجيش الإسرائيلي المدعوم أمريكيا واطلسيا وعربيا لا يشذ عن هذه القاعدة بل يعززها ويعطيها المزيد من المصداقية.

فعركة طوفان الاقصى حسب التسمية الفلسطينية ومعرفة الاستقلال الثانية كما إعتبرتها إسرائيل كانت معركة غير متكافئة او غير متناظرة حسب لغة العسكر ومع ذلك فإن الطرف القوي لم يستطع فيها تحقيق الإنتصار على الطرف الضعيف وهو المقاومة الفلسطينية المحاصرة جوا وبحرا وبرا لانها اعدت نفسها جيدا للحرب من ناحية وإمتلكت سلاح العقيدة من ناحية ثانية وإمتلكت سلاح الإرادة من ناحية ثالثة.

بكلمات أخرى فإن غزة إنتصرت لانها اولا: صمدت صمودا اسطوريا،

وثانيا: لأن الاهداف التي حددها المستوى السياسي الإسرائيلي للمستوى العسكري لم تكن واضحه ولا قابلة للتحقق.

وثالثا لأن الخسائر البشرية التي مني بها الجيش الإسرائيلي لا سيما في معارك شمالي غزة لم تعد تطاق إسرائيليا الأمر الذي دفع إدارة ترامب تحديدا للتدخل من أجل وقف الحرب لكي لا يؤدي إستمرارها إلى تفكك الدولة برمتها.

وعود على بدء فإن إسرائيل خسرت لانها فشلت في تحقيق اهم الاهداف غير المعلنة لحربها على قطاع غزة وهو هدف ترحيل سكانه إلى مصر وتوطينهم في سيناء.

فمن أجل تحقيق هذا الهدف فقد جري تدمير قطاع غزة بشكل ممنهج من مدارس وجامعات وبنى تحتية ودور عبادة بهدف جعله مكانا غير قابل للحياة الآدمية ولكن هذا الهدف فشل لأن الفلسطينيين ورغم كل الخسائر البشرية التي وقعت لهم ظلوا متشبثين بارضهم ويرفضون الرحيل عنها.

ففي الذاكرة الجمعية للفلسطينيين لا سيما في قطاع غزة تاريخ حافل مع إفشاء مشاريع التوطين منذ أوائل خمسبنيات القرن الماضي حيث قاوموا آنذاك مشروع جونستون لتوطينهم في سيناء وقدموا شهداء على مذبح النضال من اجل افشاله ونجحوا في ذلك.

وإستطرادا فعندما تحين ساعة الحقيقة فإن الإسرائيليون سوف يسألون نتنياهو بعد ان تضع الحرب اوزارها أين النصر المطلق الذي وعدتنا بتحقيقه؟ ولماذا لم تقضي على حركة حماس كما وعدت ؟ولماذا لم تبعدها عن حكم القطاع ؟ولماذا لم تقم ببناء مستوطنات جديدة؟ولماذا لم تحرر ا"لمختطفين" بالقوة؟.

البعض قد يتطوع لتقديم طوق نجاة لنتنباهو من خلال القول بأن نتنياهو لم يتراجع قيد انملة عن اهداف الحرب وكل ما في الأمر انه إمتثل لأمر من الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب بضرورة وقف الحرب على غزة لان الاخير يريد ان يرى هدوء في الشرق الاوسط قبل عودته إلى البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني الجاري لكي يتفرغ لحربه الإقتصادية مع الصين ولتسوية الصراع بين روسيا واكرانيا ولضم كندا وحل قضية الهجرة من المكسيك...الخ.

ولكن هل هذا هو السبب الحقيقي لقبول نتنياهو مغامراً بإنفراط عقد حكومته الاكثر يمينية في تاريخ إسرائيل؟.

في إعتقادي ليس ترامب هو الذي فرض هذا الإتفاق لسببين الأول :لأن الحاكم الفعلي لأمريكا ليس رئيسها القابع في البيت الأبيض بل الدولة العميقة المؤيدة بالمطلق وبدون تحفظ لإسرائيل، والثاني: لأن ترامب كان قد هدد اهل غزة بمحوها عن وجه الأرض إن لم يجري إطلاق سراح المختطفين الاسرائبليين قبل عودته إلى البيت إلى البيت لابيض في العشرين من الجاري.

إذن فإن ما اجبر نتنياهو على تغيير موقفه بزاوية ١٨٠ درجة و التفاوض مع حماس وعقد صفقة تبادل أسرى معها والتخلي عن اهداف الحرب التي وضعها بنفسه هو الخسائر البشرية الكبيرة التي مني بها جيشه في تلك الحرب وتحديدا في شمال قطاع غزة.

وهذا ما عبر عنه الكاتب الإسرائيلي يئير اسولين الذي كتب في صحيفة هآرتس قبل أربعة أيام بالحرف الواحد "حتى إذا قمنا بإحتلال كامل الشرق الاوسط وحتى إذا إستسلم لنا الجميع فلن ننتصر في غزة ".

كما ذهب الجنرال الإسرائيلي البارز إسرائيل زئيف قائد سلاح المشاه والمظليين الأسبق في مقالة له نشرت بتاريخ السابع من الشهر الجاري إلى حد تشبيه ما جرى للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة بما جرى للجيش الامريكي في فيتنام الذي خرج مهزوما من فيتنام عام ١٩٧٥ ومعه ٦٠ الف قتيل بعد ان ظن أن ممارسة القوة الغاشمة وسياسة الارض المحروسة ستوفر له نصراً وإذا بها تؤدي إلى هزبمة مدوية.

وبإختصار وبدون متالغة فقد كانت حربا عالمية شنت على غزة وانتصر فيها غزة ليس على إسرائيل فحسب بل تحالف امريكي وغربي ودولي وقف إلى جانبها وساندها بالمعلومات الاستخبارية لا بل حتى بالمشاركة الفعلية في المعارك.

وفي الختام فإنني استطيع القول أن ما حصل هو إنتصار إستراتيجي مدوي ستكون له تداعيات وجودية خطرة على الكيان الإسرائيلي والمشروع الصهيوني برمته وعلى كل الدول العربية التي تآمرت على غزة وخذلتها.

المصدر: موقع إضاءات الإخباري