المقامرة لم تعد نشاطاً نادراً أو محصوراً بأماكن محددة، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تتسلل إلينا عبر شاشات هواتفنا الذكية، وتستهدف أدمغتنا من خلال تصميمات موجهة بدقة علمية عالية.
- المقامرة كأزمة صحية عامة عالمية
بحسب تقرير حديث صادر عن لجنة الصحة العامة التابعة لمجلة The Lancet، تُعد المقامرة مشكلة صحية عامة عالمية غير معترف بها بشكل كاف، وتشكل تهديداً للأجيال القادمة، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو 448.7 مليون شخص حول العالم مارسوا المقامرة بشكل غير صحي خلال العام الماضي، فيما يعاني 80 مليون شخص من إدمان فعلي للمقامرة.
يقول البروفيسور مارك غريفيثس، أستاذ الإدمانات السلوكية في جامعة نوتنغهام ترنت البريطانية:
"كل من يحمل هاتفاً ذكياً كأنه يحمل كازينو في جيبه طوال الوقت، وإذا كنت ضعيفاً أو معرضاً، فالأمر يمكن أن يتحول إلى كارثة حقيقية."
- من لاس فيغاس إلى جيبك: كيف تغيّر كل شيء منذ 2018
قبل عام 2018، كان على المهتمين بالمقامرة الذهاب إلى أماكن محددة مثل لاس فيغاس. أما اليوم، ومع قرار المحكمة العليا الأمريكية بالسماح للولايات بتشريع المقامرة الرياضية، انطلقت صناعة المقامرة الرقمية نحو انفجار حقيقي.
الهواتف الذكية كانت بوابة هذه الثورة، وقد أصبح الأميركيون يقضون ما معدله 4 ساعات و30 دقيقة يومياً أمام شاشاتهم، مقارنة بـ 2 ساعة و54 دقيقة في عام 2022. وخلال هذه الفترة، أصبحت تطبيقات المقامرة وشركات مثل FanDuel تحقق أرباحاً خيالية بلغت 4.84 مليار دولار في 2023، مقارنة بـ 490 مليون دولار فقط عام 2019.
- لماذا المقامرة الرقمية أكثر إدماناً؟
المقامرة الرقمية تمتاز بسرعة التكرار وسهولة الوصول، وهو ما يجعلها أكثر إدماناً. فمثلاً، آلات القمار تسمح لك باللعب حتى 15 مرة في الدقيقة، وكل دورة تفعّل نظام المكافآت في الدماغ، مما يخلق شعوراً مشابهاً لتعاطي الكوكايين، بحسب الباحثين.
ومع إدخال "الرهان أثناء اللعب"، أصبح من الممكن المراهنة على عشرات التفاصيل خلال المباراة الواحدة: من سيسجل أول هدف؟ كم عدد البطاقات الحمراء؟ كم رمية ركنية؟ وهكذا.
- من الألعاب إلى الرهان: أطفالنا في خطر
يقول البروفيسور غريفيثس: "أكثر من 200 عامل يمكن أن يحوّل المقامرة من نشاط ترفيهي إلى إدمان خطير، بدءاً من الاستعداد الجيني، وانتهاءً بتصميم الألعاب."
منصات مثل Roblox التي تحتوي على صناديق الجوائز (Loot Boxes) تمهد عقل الطفل لتجربة المقامرة. إذ تُشجّع هذه الألعاب الطفل على دفع أموال حقيقية مقابل فرص عشوائية، ما يخلق نمط تفكير قائم على المخاطرة والمكافأة.
- العقل المدمن: ما الذي يحدث داخل الدماغ؟
تشير دراسات التصوير العصبي إلى أن مدمني المقامرة يعانون من ترقّق في المناطق الأمامية من الدماغ المسؤولة عن السيطرة على السلوك، وزيادة في نشاط المناطق المتعلقة بالمكافأة، مما يجعلهم أكثر عرضة للاندفاع واتخاذ قرارات غير عقلانية.
الدماغ يبدأ في "إعادة تنظيم نفسه" ليتجاوب مع المكافآت، ما يجعل من الإقلاع عن المقامرة تحدياً هائلاً.
- وسائل التواصل والمقامرة: شراكة خفية
تشير الدراسات إلى وجود ارتباط وثيق بين الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي والإدمانات الرقمية الأخرى، بما في ذلك المقامرة. الإشعارات الفورية تعمل بنفس مبدأ المكافآت غير المتوقعة، ما يعزز رغبة الدماغ في "التحقق باستمرار"، وهي نفس الآلية التي تجعل من المقامرة إدماناً.
- متى يصبح الأمر خطيراً؟
الإدمان لا يظهر فقط عند الإفلاس أو فقدان الوظيفة. بل تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يعانون من مشاكل المقامرة غالباً ما يعانون أيضاً من سوء التغذية، قلة النشاط البدني، ضعف الصحة النفسية، العنف الأسري، وحتى محاولات الانتحار.
تُقدّر الخسائر العالمية المتوقعة بسبب المقامرة الرقمية بحلول 2028 بـ 700 مليار دولار.
- كيف نساعد المصابين بإدمان المقامرة؟
التقييم النفسي: استخدام أدوات مثل Brief Biosocial Gambling Screen لتحديد وجود مشكلة.
العلاج المعرفي السلوكي: يهدف إلى تغيير أنماط التفكير الخاطئة المرتبطة بالمقامرة.
معالجة الأسباب النفسية: مثل الاكتئاب، القلق، أو اضطرابات فرط الحركة وتشتت الانتباه.
التوعية الأسرية: لا يجب المقامرة أمام الأطفال أو اعتبارها سلوكاً طبيعياً.
كسر الوصمة: يجب التعامل مع إدمان المقامرة كمرض نفسي حقيقي، وليس فقط مشكلة "قلة انضباط".
لم تعد المقامرة تقتصر على الكازينوهات، بل أصبحت تنبض في جيوبنا، وتخترق عقولنا، وتستهدف أطفالنا. في عالم رقمي يتحرك بسرعة الضوء، يبدو أن الحاجة إلى التوعية والمعالجة أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. علينا أن نواجه هذه الظاهرة ليس فقط كأفراد، بل كمجتمعات تبحث عن حماية أجيالها القادمة من خطر إدمان خفي لا يُرى بالعين، لكنه يترك أثراً لا يُنسى في النفس والعقل.



