كتب الأستاذ حليم خاتون:
لعل أهم قرار اتخذته إيران هو عدم توقف الحرب عند نتائج الضربة الأولى...
لم ترتكب إيران الخطأ المميت كما يفعل العرب الذين يهرعون دائما لطلب وقف إطلاق النار عند أول "ضربة كف"...
بهذا تميزت إيران عن كل الدول العربية التي دخلت حروبا ضد الكيان الصهيوني او التي تعرضت لعدوانه، وكانت ترمي السلاح مباشرة بعد الضربة الإسرائيلية الأولى...
لم يختلف الأمر كثيرا منذ ٤٨ ثم ٥٦ ف٦٧ و٧٣ وصولا إلى ٨٢...
العدوان كان دائما غربيا بامتياز، وإن ارتدى المهاجمون بدلات إسرائيلية...
مشكلة الناس في منطقتنا أن عملاء الغرب عندنا من أبناء جلدتنا استطاعوا خلال كل هذه السنين كي الوعي العربي...
ما أن يخرج كاتب او سياسي يتحدث عن عدوان أميركي أو بريطاني أو ألماني أو فرنسي، حتى يتم اتهامه بالشعوذة والخيال الواسع في نظرية المؤامرة او حتى حمل افكار خشبية...
وحتى حين تعلن بريطانيا إرسال طائرات إلى منطقة الشرق الأوسط لدعم الكيان الصهيوني، نجد عملاء الغرب هؤلاء يلزمون الصمت وكأن لبريطانيا الحق في المجيء إلى منطقتنا بينما هذا ممنوع على أهل المنطقة أنفسهم كإيران مثلا.
في الحقيقة، لا يحتاج الأمر إلى كثير شرح...
كل الدراسات تقول بما لا يترك أي مجال للشك إن إقامة دولة يهودية في فلسطين هو مشروع غربي في الأساس؛ بدأ مع الإنجيليين في ألمانيا إبان ما سُمي الحروب الدينية، ثم تلقفه نابليون الذي دعا إلى إقامة هذه الدولة في أواخر القرن الثامن عشر في الفترة الممتدة من ١٧٩٥ إلى أواخر ١٧٩٩...
لم ينفع ادعاء نابليون الدخول في الإسلام في تسهيل سيطرته على الشرق فهو رغم احتلاله لمصر تلقى هزيمة مدوية في بلاد الشام وعرف أن الدولة التي تحكم مصر وبلاد الشام هي من يستطيع حكم الشرق... لذلك دعا إلى هجرة اليهود إلى فلسطين ليجعل منهم طابورا خامسا داخل المنطقة لصالح فرنسا..
نام المشروع فترة من الوقت بعد هزيمة مشروع نابليون في أوروبا قبل أن يتبناه مجموعة من الساسة البريطانيين الأنكلو ساكسون في إحياء الصهيونية المسيحية عند الإنجيليين...
مع المعذرة لهذا الاضطراد، لكن ملخص القول هو أن مشروع الدولة اليهودية في فلسطين كان دوما مشروعا إمبرياليا غربيا...
يقول البروفيسور إيلان بابيه أن هذا المشروع كان مرفوضا بشكل مطلق من معظم يهود أوروبا الغربية، وإن النظرية الصهيونية في تجميع كل اليهود في فلسطين بانتظار عودة المسيح المنتظر كان من يتبناها من المسيحيين الإنجيليين أكبر بكثير من اليهود لسببين إثنين:
الأول أن هؤلاء الإنجيليين يؤمنون بوجوب عودة المسيح الذي سوف يدعو الناس إلى الديانة المسيحية، فيتبعه المؤمنون، ويتم القضاء على كل من لا يتبعه، يعني باختصار، يتم القضاء على كل اليهود الذين يرفضون الإنضمام إلى الديانة المسيحية الجديدة مع هذا المسيح العائد...
ثانيا لأن معظم الدعاة إلى إقامة هذه الدولة هم أكثر الناس معاداة للسامية... اللورد بيلفور مثلا، صاحب الوعد بسرقة الأرض هو صاحب القانون الصادر في بريطانيا الذي يمنع اليهود الهاربين من الاضطهاد في أوروبا الشرقية من الدخول إلى بريطانيا... كذلك كان الأمر في فرنسا وفي أميركا أيضا...
بما اننا نتفق وفقا لتاريخ تأسيس وسيرورة الحركة الصهيونية أن هذا المشروع غربي بامتياز، علينا دائما التفتيش عن هذا الغرب في كل حروب استعمار الشرق، وفلسطين تحديدا...
سنة ٤٨، كانت بريطانيا عبر الإنكليزي غلوب باشا قائد الجيوش الأردنية، وعبر الوقوف مع بني سعود ضد العائلة الهاشمية في الجزيرة العربية لأن الشريف حسين رفض التخلي عن فلسطين طوعا، ومن هنا كان خلافه القوي مع إبنه عبدالله الذي خضع لمشيئة بريطانيا من اجل البقاء على العرش، ووافق على نفي والده الشريف حسين إلى مالطا ومعه حفيده طلال بن عبدالله الذي لم يكن ابوه يحبه كثيرا...
طلال بن عبدالله بن الحسين سوف يتم عزله لاحقا ثم نفيه الى مصر وبعدها الى إسطنبول على يد السفير البريطاني في المملكة الاردنية لأنه كان قريبا من الحركة القومية العربية...
سنة ٥٦، كان العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي على مصر؛ عدوان غربي دون أي رتوش...
عشية حرب ٦٧، تعلم الغرب الدخول في الحرب بطرق خفية...
قام الألمان بتمويل بناء الدولة اليهودية تحت مسمى التعويضات عن المحرقة النازية ضد اليهود...
يقول البروفيسور فينكلشتاين أن والداه الناجيان من معتقل أوشفيتز لم يتلقيا فلسا واحدا تعويضا عن المعاناة التي تعرضا لها على أيدي النازيين الأوروبيين...
بدل ذلك، كان كل المال يذهب إلى تأسيس البنية التحتية للدولة اليهودية عبر انشاء خطوط قطار وتقديم أكثر من قطار هدية لدولة الكيان وبناء ما يكفي من محطات كهرباء رخيصة لكي يكون هناك اقتصاد منتج؛ كما تم تقديم ٥٠٠ دبابة و٥٠ طائرة مقاتلة وعشرة سفن لتقوية النزعة الاستعمارية عند هذا الكيان الإستيطاني؛ إضافة الى تقديم ما يقارب المئة مليار دولار على مدى أقل من خمسين سنة من المانيا وحدها عدا بقية الدول الغربية التي برعت في سن حتى قوانين إعفاء من الضرائب لكل من يتبرع للكيان المسخ...
في سنة ٧٣؛ تقول كل الوثائق أن الرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته اليهودي الصهيوني هنري كيسنغر قاما بتأمين جسر جوي مستمر مع تدخل الطيارين الاميركيين المباشر في المعارك حتى انقلبت الموازين بعد بضعة أيام واستعاد العدو الإسرائيلي زمام المبادرة...
هكذا تحول نصر تشرين ٧٣ إلى مهزلة الكيلو ١٠١، قبل أن يُغرِق السادات مصر والأمة في لعنة كامب ديفيد التي لا تزال آثارها تظهر كل يوم على أجساد الاطفال والنساء...
سنة ٨٢، جاءت قوات الأطلسي بنفسها مباشرة واحتلت بيروت وفي طليعتها المارينز الأميركي، المظليين الفرنسيين مع قوة خاصة إيطالية...
أجبر هؤلاء منظمة التحرير الفلسطينية على الاستسلام وقبول الانتقال واللجوء في بلاد بعيدة عن فلسطين...
سنة ٢٠٠٦، كلنا يذكر كونداليزا رايس التي جاءت تبشر بمخاض الشرق الأوسط الجديد إلى أن أجبرها حزب الله على ابتلاع لسانها، وانتهت الحرب بأول هزيمة عسكرية فعلية في حرب شاملة بين العرب والكيان رغم كل الدعم من مؤتمر شرم الشيخ في مصر الذي شاركت فيه كل الدول الامبريالية إضافة الى الصين وروسيا وما يسمى معسكر الاعتدال العربي (كلاب العرب باختصار)...
أكتوبر سنة ٢٠٢٣،
فاجأت حماس العالم بأضخم عملية تأثير على الوضع العالمي...
تفاصيل ما حدث ليست مدار الحديث اليوم؛ لكن الجميع يذكر كيف حج زعماء دول غرب أوروبا والناتو للوقوف إلى جانب العدو الصهيوني الذي كان فقد ليس زمام المبادرة فحسب؛ بل دخل في مرحلة انعدام وزن ما أجبر بايدن على إرسال ٢٠٠٠ مستشار عسكري من المارينز قاموا بالتخطيط لاستعادة المبادرة من المقاومة الفلسطينية الى الكيان...
زادت مع الوقت أعداد المستشارين الى ان صار الجنرال الأميركي كوريلا المشرف الفعلي على غرفة العمليات الصهيونية لشن الحروب على مختلف الجبهات بالاستعانة بكل مقدرات القيادة الوسطى لحلف الناتو، خاصة في قبرص واليونان...
كل هذا التاريخ من الحروب يقول أمرا مهما جدا...
الكيان الإسرائيلي ليس سوى الواجهة...
الغرب عامة، والاميركيون خاصة هم وراء أي حرب وكل حرب بما في ذلك الهجوم الذي تم تنفيذه على حزب الله في لبنان من أواخر شهر سبتمبر أيلول ٢٠٢٤ حتى أواخر شهر نوفمبر تشرين الثاني من العام نفسه...
نجاح حلف الناتو في لبنان، جعل الاميركيين يقومون بنفس التخطيط لتنفيذه ضد إيران...
تم تطويق إيران بدول طوق معادية لإيران تقوم أساسا على أنظمة يحكمها سُنّة عرب مثل السعودية والإمارات والأردن وسوريا مؤخرا بعد وصول ياكوف الشرع الى الرئاسة بفضل التدخل (السُنّي التركي)...
كما تم زيادة أذربيجان الشيعية التي ترتبط مع تركيا إثنيا، والعراق الذي تم تهديد حكومته الشيعية أيضا لتسهيل الهجوم على إيران...
في إيران، لم يكن الوضع سهلا على الإطلاق...
تيار محافظ لم يخرج بعد من عباءة الثورة والتحرر (شكرا لله)...
وتيار إصلاحي يختلف كثيرا عن التيارات التي تدعي الإصلاح في البلاد العربية...
صحيح أن التيار الاصلاحي وطني، لكنه بلغ من الغباء حد الاعتقاد أن أميركا قد تعامله يوما كما تتعامل مع إسرائيل...
لذلك ربما، رفض التيار الاصلاحي الإنتقام لاغتيال الرئيس الشهيد رئيسي...
هنا يبرز سؤال: لماذا تم رفع اسم بيزيكشيان عن لائحة الممنوعين من الترشح للرئاسة...
يبدو أن التيار المحافظ كان بدأ يستشعر بعض الخطر منذ حفلات الثورات الملونة التي تسبب بها مباشرة موت مهسا أميني؛ إضافة إلى بعض الترهل الذي أصاب بعض قيادات هذا التيار الذي ضاق ذرعا من مؤامرات النظام الرسمي السُنّي العربي...
لذلك تشبثت إيران منذ السابع من أكتوبر بنظرية الصبر الاستراتيجي التي أدت إلى كوارث على كل مستويات نضال حركات التحرير...
اجتمع المرشد مع بيزيشكيان واتفقا على إطلاق يد الإصلاحيين للوصول
إلى حلول الحد الأدنى لإيران مع أميركا وهو الوهم الذي ادى الى نجاح الضربة الاسرائيلية الأولى في النيل من الكثير من قيادات الصف الأول...
لكن وفقا لنظرية الدكتور جورج حبش الانتصار على إسرائيل سوف يتحقق ليس بسبب وطنية أعداء إسرائيل؛ معظم هؤلاء ذوي نفس قصير وقد وصلت الأمور بهم إلى قبول أقل من خُمس مساحة فلسطين التاريخية، مع قبول كل الشروط المجحفة في سرقة ونهب وطن بأكمله...
يقول الدكتور حبش أن التحرير الكامل سوف يتحقق بسبب "وطنية!!" الاسرائيليين الذين كلما حصلوا على شيء طالبوا بأكثر...
لذلك توقع الدكتور جورج حبش أن الإسرائيلي سوف يظل يدفع الآخرين إلى الحائط المسدود حتى يتحقق الانفجار الكبير حين لا يجد هؤلاء بدا من المنازلة الكبرى...
يحيي ومحمد السنوار ومحمد الضيف ومروان عيسى وصلوا إلى هذا الحائط وقرروا الذهاب إلى الانفجار الكبير وجر محور المقاومة إلى المعادلة الصفرية التي تشكل سلاح التدمير الشامل للاقتصاد العالمي...
لذلك قرروا القتال حتى النصر أو الشهادة، وقد منّ الله عليهم بأعظم شهادة...
حزب الله في لبنان مشى خطوات إلى الأمام قبل أن يتفاجأ بتهديد وجودي تعمل عليه أميركا بمساعدة مباشرة من أنظمة السُنّة العرب، وتحديدا السعودية والإمارات وقطر ومن خلف هؤلاء تنظيم الإخوان المسلمين العالمي وعلى رأسه تركيا وإردوغان...
يقوم المشروع على تطهير لبنان من كل وجود شيعي بالموافقة مع تطهير غزة والضفة من كل العرب الذين يشكل السُنّة أغلبية فيهم...
يتم وفق المشروع ارتكاب مجازر في جنوب لبنان والبقاع كما حصل في غزة بعد أن يتم إسقاط نظام بشار الأسد رغم كل التخاذل الذي كان يبديه الرجل وذلك بغية قطع أي إمكانية فك الحصار الخانق الذي يجب فرضه على الشيعة في لبنان، من الداخل عبر السلفيين والإخوان المسلمين في الشمال ومخيمات اللجوء الفلسطيني والنزوح السوري التابع بمعظمه لنظام ياكوف الشرع الذي نصبته تركيا وقطر والسعودية رئيسا على سوريا لهذه الغاية...
لمن يعتقد أن هذا من نظرية المؤامرة ما عليه سوى متابعة تصرف الهمج على الجانب السوري من الحدود حتى في هذه الايام المجيدة التي تقوم فيها ايران بدك الكيان بكل ما يسر الله من علم وسلاح وهمة...
هؤلاء الفئران الذي لا يقومون بأي شيء لمنع إسرائيل من اجتياح وضم معظم جنوب سوريا إلى الدولة اليهودية المزعومة، يهاجمون القرى اللبنانية المتاخمة للحدود، والتي معظمها من الشيعة والمسيحيين بشكل لا يمر يوم دون قصف أو حرق محاصيل أو سرقة مواشي أو حتى قتل مزارعين في أراضيهم...
على الأقل، هذه هي التبريرات التي يقدمها الحزب الذي قرر حتى عدم الإنضمام إلى الحرب القائمة اليوم بين إيران والكيان الا في حالة واحدة:
عند دخول هذه الحرب مرحلة الحرب الشاملة...
عندها فقط، سوف يخرج أكثر من مئة الف مقاتل سوف يدخلون الجليل لنصرة غزة والضفة وال٤٨، وقسم آخر سوف يقف سدا منيعا أمام مرتزقة إردوغان من جماعة نظام ياكوف الشرع...
سواء اعجبنا موقف حزب الله ام لا،
يجب الاعتراف أن صفوف الحزب بدأت تكبر وتضم الكثير من السُنّة القوميين العرب والأقليات من مسيحيين ودروز وعلويين باتوا يعرفون ان ياكوف الشرع آت لذبحهم وسبي نسائهم بمجرد أن يدخل حزب الله في حرب ضد الكيان...
لذلك قرار حزب الله الذي لا يزال يحافظ على قوة ضاربة تزيد على مئة ألف مقاتل وصواريخ استراتيجية لا تزال في بطون الجبال هو عدم دخول هذه الحرب على أسس الإسناد كما كان الوضع سابقا...
دخول هذه الحرب سوف يكون فقط حين تصبح شاملة لكل المنطقة ويكون الهدف إزالة الكيان من الوجود ومعه كل الناتو الذي سوف يلقى في المنطقة ما لاقاه في اليمن...
بعد ثلاثة أيام من الهجمات الإسرائيلية، وثلاثة أيام من الرد الصاعق الإيراني بعد أن ازاح التيار المحافظ الإصلاحيين عن مواقع القرار، وصار المرشد السيد الخامنئي هو مصر الأوامر التنفيذية المباشرة...
ها هوالمرشد قد قرر البدء بمرحلة اللارجوع إلى الوراء...
أمس أعلنت إيران أن المفاوضات النووية صارت بلا جدوى وانها قررت تغيير طبيعة العلاقة من وكالة الطاقة الذرية التي تخضع لهيمنة الغرب...
ترامب أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما الاصطدام المباشر مع إيران وهو الذي فشل مع الحوثيين في اليمن،
وإما الذهاب هو نفسه صاغرا موافقا على شروط طهران الجديدة التي سوف تقلب المشهد في الشرق الأوسط بشكل سوف يطال حتى النظام الرسمي العربي، خاصة بعد وقوف النظام السُنّي النووي الباكستاني بشكل كامل إلى جانب إيران الشيعية والرد على تهديد فرنسا بمساعدة إسرائيل بأنها سوف تواجه جيوش الباكستان تقاتل إلى جانب إيران في الميدان...
من الأساس، لم تكن إيران وحيدة...
من الأساس لم تكن إيران ضعيفة...
كان يجب فقط وضع حد للصبر الاستراتيجي واستبداله بالمعادلة الصفرية التي تقول أن بقاء العالم من عدمه في يد إيران اذا ما أصرّ الأغبياء على الذهاب أبعد مما يجب...



