بعد سلسلة من الحروب المتتالية التي شنّها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على غزة ولبنان وسوريا وإيران، يتّضح أنه لا يخطط فقط لتحقيق انتصارات عسكرية، بل يسعى لرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، تُعيد تعريف النفوذ والحدود والهوية الجيوسياسية للمنطقة، لكنّ مسعاه لم يكن سهلا، ولم يخلُ من الفشل والارتدادات.
الحروب التي لم تحقق نصرا حاسما
رغم الدمار الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية، لم يحقق نتنياهو النصر الاستراتيجي الذي حلم به، حيث أن غزة ورغم الحصار والضربات، ما زالت تقاوم، ولبنان رغم الضربة القاسية التي تلقاها باغتيال السيد حسن نصر الله، لم يسقط في يد إسرائيل، بل بدأت المقاومة تعيد تنظيم صفوفها.
أما الحرب الكبرى على إيران، فقد كشفت محدودية القدرة الإسرائيلية على خوض صراع طويل مع قوة إقليمية بهذا الحجم، فإيران رغم الألم، لم تُهزم، واستمر حضورها في المنطقة.
اليمن: الجبهة التي استعصت على الترويض
وفي تطور لافت ومتصاعد، وسّعت إسرائيل نطاق عدوانها ليطال اليمن، إذ شنّ سلاح الجو الإسرائيلي غارات مركّزة على ميناء الحُديدة ومرافق حيوية في الصليف ورأس عيسى، كما استهدف محطة رأس الخطيب للطاقة وسفينة "غالاكسي ليدر" التي كان أنصار الله قد استولوا عليها قبل عامين، هذا الهجوم لم يكن فقط رسالة عسكرية، بل محاولة لكسر واحدة من الجبهات التي باتت تؤرّق إسرائيل استراتيجيا، بعد أن تحوّل اليمن إلى قاعدة صاروخية وبحرية في عمق الجزيرة العربية، يربك الحسابات الإسرائيلية ويهدد الملاحة في البحر الأحمر، ورغم شراسة الغارات، بقي اليمن، كما إيران، خارج دائرة الانهيار، ليؤكد مرة أخرى أن الجغرافيا المعادية لإسرائيل لم تعد محصورة في الشمال.
الداخل الإسرائيلي يشتعل
بالتوازي، بدأ الداخل الإسرائيلي يظهر علامات تفكك خطيرة. أزمة سياسية خانقة، تدهور اقتصادي واضح، وموجة هجرة لافتة إلى قبرص، حيث بات بعض الإسرائيليين يبحثون عن ملاذ آمن من مستقبل غامض.
بات السؤال الآن: إلى أين سيذهب نتنياهو بعد كل ذلك؟ هل سيستمر في الهروب إلى الأمام عبر افتعال جبهات جديدة؟ أم أن إسرائيل مقبلة على تغيير في البوصلة؟
الأهداف المقبلة: العراق؟ تركيا؟ لبنان من جديد؟
1. العراق:
العراق يبدو هدفا قادما لنتنياهو، فرغم هدوء الحشد الشعبي وتخفيف النفوذ الإيراني فيه، لا يزال العراق يمثل عمقا استراتيجيا لأي مواجهة مع طهران، إسرائيل قد تفكر في ضربات نوعية تستهدف بنية المقاومة العراقية، أو في تحريك أدوات داخلية لإعادة خلط الأوراق.
2. تركيا:
تركيا باتت لاعبا إقليميا معقدا، علاقتها المتقلبة مع إيران، وطموحها في سوريا والعراق، تجعل منها خصما وشريكا محتملا في آن، أي مواجهة مباشرة مع تركيا قد تكون مستبعدة، لكنها ليست مستحيلة إن شعرت إسرائيل بخطر يتمدد من الشمال.
3. لبنان من جديد:
عودة إسرائيل إلى لبنان ليست مجرد احتمال، بل خيار مفتوح دائما، فرغم الضربة التي وُجّهت لحزب الله، لا يزال الجنوب يشكل عقدة أمنية مزمنة لإسرائيل، ولكن أي حرب جديدة هناك قد تفجر الداخل الإسرائيلي مجددا، وتُشعل الساحات الفلسطينية والإقليمية.
4. إيران: جولة أخرى؟
رغم فشل الجولة الأولى، قد يفكر نتنياهو في جولة ثانية ضد إيران، خاصة إذا شعر أن طهران بصدد استعادة المبادرة، لكنه يدرك أن أي مغامرة جديدة قد تكون قاتلة سياسيا في الداخل، وعسكريا على مستوى الجبهة، لذلك من الممكن أن يحاول العبث من خلال أدوات داخل إيران.
بين الهجوم والانكفاء
يجد نتنياهو نفسه اليوم أمام معادلة معقدة: لا يستطيع التقدّم دون تكلفة باهظة، ولا يستطيع التراجع دون أن يُفسّر ذلك كفشل.
أمامه خياران: إمّا أن يعمد إلى تسخين جبهة جديدة يصنع منها نصرا شكليا يعيد لقاعدته بعض الأمل، أو أن يتجه إلى محاولة إنقاذ الداخل الإسرائيلي عبر تسوية إقليمية تُرضي الغرب وتؤمّن له مخرجا مشرّفا.
لكنّ التاريخ يُظهر أن نتنياهو، كلما واجه مأزقا داخليا، اختار التصعيد، لذلك فإن المنطقة على موعد مع مرحلة شديدة الاضطراب، ما دام المشروع الإسرائيلي قائما على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، لا فقط حمايته من "التهديدات".
قد تكون الحروب قد أُشعلت، لكن النصر لم يُحسم، وقد تكون الخريطة بدأت تتغيّر، لكن ملامحها ما تزال ضبابية. في هذا الوقت، يقف نتنياهو في مفترق طرق: بين حلم "إسرائيل الكبرى"، وكوابيس الداخل التي بدأت تطارده وقد تجعله يتهور باتخاذ خطوات يدفع ثمنها.