بقلم: محمد سعد عبد اللطيف
في قريتنا، لا يموت الناس فقط، بل تموت المفاهيم معهم. وحين مات شيخ البلد، لم تُنكّس الأعلام، بل انعقدت الدهشة فوق رؤوس النخيل، وانطلقت زغاريد في غير ميعاد. البعض بكى، البعض حجز الكرسي، والبعض الثالث... لم يكن يعرف أصلًا إن عندنا شيخ بلد! مات الرجل الذي كانت العصا في يده ميزانًا، لا أداة ضرب. وكان إذا صمت، صمتت خلفه الحكايات احترامًا، وإذا تكلم، خرست الطبول، ورفعت العصافير أجنحتها. لكننا اليوم، لا نملك رفاهية الفقد، فكل ما يُفقد يُعوّض بكورس أونلاين، وكل ميت يُدفن تحت شعارات التنمية البشرية..! مات شيخ البلد... فخرجت القرية تسأل: من يرث الحكمة؟ فقال أحدهم بثقة: "ابن البلد... عنده حساب على التيك توك، ومتابعين أكتر من عدد النخل...!" فصفّقوا له، وزغردت "ذنوبة العمشة"، وانطلق المزمار من أول الحارة، وأُعلنت البداية الرسمية لعصر التهريج المنهجي. في ليلة "مالهاش ضهر"، تأخّر القمر، وسبقت الريح الأخبار، وصحيت البلد مش على آذان الفجر، لكن على همس فلاح بيقول: "شيخ البلد مات… ومفيش حد يشيل الحارة من بعده...!" سألت: أعمل إيه يا بلد...؟ كتبت زعلي على باب الديوان، وقلت: "آه يا بلد...!" قالوا: اسكت يا ولد... سكت. قالوا: مالك...؟ اتكلمت. قالوا: "هيخرب البلد..!" في الجلسة العرفية على ناصية الحارة، انعقدت المحكمة الفيدرالية العليا، لبحث مشروع "مين هو ابن البلد..؟" واجتمع كل المرشحين أمام الساحة الكبيرة، كل واحد شايل في إيده ملف الهوية والنسب والأصل، وكأننا في موسم حج للعُروش الوراثية..! دخلوا يتباهوا: هذا قال: "أنا حفيد الشيخ ازمازي العارف بالله!" وذاك صاح: "أنا من نسل ظهير الدين، صاحب الكرامات!" وثالث نادى: "أنا ابن الشيخ عوض .،،،عرَكة... اللي كانوا يشربوا من بُصاقه في الليالي المطيرة..!" واشتعلت "الخناقة الشرعية" بين الانتساب والأنساب، واحد بيقسم إنه من نسل الفاتحين، والتاني بيقدّم شهادة تزكية من مريدين زاوية "أبو حلة المربوطة"...! ووسط هذا الزهد المصلحي، وقفت "ذنوبة العمشة" من الصف الأول، وهتفت بثقة وعيون حولاء: "مفيش غيره... ابن البلد الحقيقي، اللي بيرقص في المولد وهو لابس الجلابية نص كم...!" اندلعت المعركة، وسمعت "حارة السلطان"، وخرجت بالمزمار البلدي والطبل يرن، والصبية لفّوا حوالين النعش وهتفوا: "عاش الملك... أَحا!" وزَعَم ابن البلد إنه الأصل والصُلب، وقال: "أنا اللي كنت في الكُتّاب، وشُفت الشيخ بيكتب اسم البلد على السبورة.. !" وأضاف بفخر: "أنا ابن الدايرة، خدت كورس حُكم على زووم، واتخرجت من جامعة تمكين الهجّاصين...!"... ورقص! نعم، رقص بجانب النعش، وقال: "الشيخ كان كويس... بس أنا أوفر..!" ثم أعلن برنامجه التنموي: "جبت تمويل لمصطبة ذكية فيها بلوتوث ومروحة بالريموت، وممكن أسير فوق البلد طيارة سيبرانية، وأجيب لطم مياه لترعة العوضية، وأوصل الكهرباء للساقية القبلية، وأعطي لكم دكتوراه فخرية في الفول والطعمية...!" فـهتفت الجماهير: "عاش الفتى مهران...!" وضحكت "فطّومة" وقالت: "يا ريتني كنت ساقية… كانوا زَيّتوني وسابوني من فضايحهم!" أما العيال...؟ فقد سابوا الكُتّاب، وبيحلموا يبقوا مؤثّرين، يعملوا لايف من جنب الترعة، ويقولوا: "كان فيه شيخ هنا… بس راح. اشتركوا معانا نرجّع روح البلد، وما تنسوش اللايك والشير، وادعولنا نكسب بالوراثة!" ويا بلد... كتبت اسمي على كل الحيطان، جنب ناس باعوكي في المزاد، ولقيت على آخر حيطة الجملة الأشهر: "أعيش أنا… ويموت البلد..!" (رواية خريف البطريرك – ماركيز). بس لأ... أنا مش هاكتب النهاية، ولا هاقلب الصفحة، أنا لسه ماسك قلمي، ولسه بقول: اللي مات كان راجل، واللي جه بعده... بيحفظ تعليمات مش مبادئ..! شايل شال الخداع، ومش عارف يفرق بين طمي النيل وتراب الفول السوداني المستورد ..! شيخ البلد مات... وترك لنا الحِسبة في دفتر مفتوح، وابن البلد بيأمر الزرع يبطل خُضار، وبيحاول يخلّي النيل يشرب بيبسي بدل ما يفيض ..! لكن إحنا...؟ إحنا ولاد الطين... والساقية... والغُلب الطيب، لسه بنحبك يا بلد، ولسه بنغنّي من قاع القلب: "شيد حالك يا بلد... لا تهدك ريح ولا تهدك عواصف، إنتي دايمًا واقفة وبترجعي توقفي..." (أنشودة محمد نوح). ولسه بنقول بصوت مليان شجن وضحك ساخر: "آه يا بلد… لسه فيكِ قلب بينبض، بس محتاج قُرص مُدرّك… من النوع المدرج في جدول المخدرات ..!" وتقعّدوا تشربوا شَربات... على روح بلد مات فيها أعز الرجال، وسوف نرقص جميعًا مع أول خيوط الفجر، ونُبايع الفتى مهران... ابن البلد، السياسي الشاب... عضو البرلمان... وخبير التحول الرقمي في وزارة الطبل البلدي... في مملكة الملك أَحا....!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية
(من سلسلة: يوميات كاتب في الأرياف)