١٩ / ٧ / ٢٠٢٥
كتب الدكتور ميخائيل عوض:
١
فِتَنٌ مُتنقِّلةٌ في سوريَّةَ والعراقِ وليبيا والسودانِ واليمنِ، وغالِبُ الظنِّ لن تَنجوَ واحدةٌ من العَرَبيّات والمُسلِمات ذاتِ الثرواتِ والموقعِ.
جَذرُ الفِتَنِ وتَجوالُها بيئاتٌ تخصُّ شعوبَ وأُممَ المنطقةِ، وعجزُها عن إنتاجِ قُوىً حيَّةٍ مُستقبليَّةٍ حاملةٍ لوعدٍ وقضيَّةٍ مُستقبليَّةٍ كُبرى.
٢
بِغيابِ القوَّةِ الحاملةِ للمشروعِ تَصبحُ البلادُ أرضَ بورٍ تطمعُ بها القوى والجماعات.
وفي وقائعِ التاريخِ وحركاتِ الشعوبِ وتطوُّرِها والبلدانِ وإدارتِها قاعدةٌ سهلةٌ ومعروفةٌ؛ فمَن لا عدوَّ لهُ يَخترعْ عدوًّا لِيُوَحِّدَ الأُمَّةَ والشعبَ والجماعةَ.
كُلُّ إمبراطوريَّاتِ الكونِ والتاريخِ فعلَتْها وتَفعَلُها، والأمريكيُّ سيِّدُها.
عندما انهارَ الاتحادُ السوفييتيُّ خَلَقَتْ عدوًّا سَمَّتهُ الإسلامَ والإرهابَ وعاشَتْ عليه، ثم أصبحتْ روسيا والصينُ.
العربُ فَرَّطوا بفُرَصِهم وتَخلَّوا عن أبسطِ حقوقِهم، وقضيَّتُهم المحوريَّةُ تُشغِلُ الكونَ وتَتَشكَّلُ قضيَّةً عالميَّةً إنسانيَّةً حافِزَةً للتغيُّراتِ وتجديدِ روحِ الإنسانيَّةِ وقوانينِها وقواعدِها.
أمَّا العربُ فأداروا الظَّهرَ لها، فَكُسِرتْ ظهورُهم، ويتحوَّلونَ تِباعًا إلى رعايا في أوطانِهم، يقودُهم مبعوثٌ شخصيٌّ للرئيسِ الأمريكيِّ، ويبطشُ بهم نتنياهو فقط لحمايةِ نفسِه ومنعِ حُكومتِه من السُّقوط.
يا حَيْف...
٣
في مُنتصفِ القرنِ المُنصرمِ صَعِدَتِ النَّاصريَّةُ والقوميَّةُ، وتحوَّلَتْ بالعربِ والمُسلِمينَ إلى قوَّةٍ عالميَّةٍ فاعلةٍ في كُتلةِ عدمِ الانحيازِ، كادتْ تَصيرُ قُطبيَّةً.
عندما قاتلتْ منظَّمةُ التحريرِ، أصبحتْ قوَّةً مَرهوبةً يَستجديها الجميعُ.
وعندما تَبَنَّتْ إيرانُ الثورةَ القضيَّةَ الفلسطينيَّةَ وأسنَدَتْها، تَمكَّنَتْ وأصبحتْ قُطبيَّةً ونوويَّةً وفَضائيَّةً.
تَذَكَّروا كلمتَيْنِ قالَهما أردوغان في دافوس، وحركةَ جسدٍ كادَتْ تُطوِّبُهُ أمامَ الأُمَّةِ وقائدَها.
٤
المقاومةُ الإسلاميَّةُ في عصرِها الثَّوريِّ، وحقبةِ انتصاراتِها، صارَتِ القلوبُ تَخفقُ لها، وطلَةُ السيِّدِ حسنٍ كصورتِه في كُلِّ بيتٍ ومنزلٍ، وعُقِدَتِ الرِّهاناتُ العَريضةُ عليها، وكَبُرَتِ الآمالُ.
سوريَّةُ طالما تحمَّلَتِ الصِّعابَ والاستهدافَ والتجويعَ والحصارَ والحروبَ الظالمةَ، ظلَّتْ مُوحَّدةً، ودولتُها وجيشُها محلُّ تقديرٍ واحترامٍ، لأنَّها لم تَستسلِمْ، ولا تخلَّتْ عن الجولانِ وعن فلسطينَ.
٥
وعندما تراجَعَتِ الهِمَمُ الثَّوريَّةُ واستقرَّ مشروعُ الدولةِ والمقاومةِ وتحوَّلَ إلى الدِّفاعيَّةِ، تراجَعَتِ الشَّعبيَّةُ وتبدَّدَ الأملُ والحُلمُ، وخَرِبَتْ بُناها وفَسَدَتْ، وقَعَدَ المُقاوِمونَ والعربِيُّونَ والإسلاميُّونَ يَتَعايشونَ معَ الخطرِ.
الخطرُ شيطانٌ فاعلٌ لا يَعيشُ بلا الهُجوميَّةِ، ولا يَستقرُّ أو يَطلُبُ سكينةً.
دائمُ الحَراكِ، ونَصْبِ الكَمائنِ، والتَّحرُّشِ، والتآمُرِ، وحالَما تَتوفَّرُ فُرصتُه يَنقَضُّ ويَفرِضُ مخطَّطاتِه.
٦
الأزمةُ وجذورُها تَكمُنُ هنا.
فالشُّعوبُ والأُممُ والدُّوَلُ التي لا مشروعَ كبيرًا لها تَنشغِلُ بالتَّفاصيلِ، والتَّفاصيلُ كثيرةٌ، وفيها يَكمُنُ الشَّيطانُ ويَتربَّصُ.
وتزدادُ فَعاليَّتُه كالنَّارِ بصَبِّ الزَّيتِ عليها، وزُيوتُ العربِ طافحةٌ، والكُلُّ يُريدُ الاستيلاءَ عليها، وهُم نِيامٌ.
٧
الشُّعوبُ والحضارةُ البشريَّةُ تَرتقي وتَتَفاعلُ، وسِمَةُ العصرِ: الوحداتُ الجُغرافيَّةُ الكُبرى، وقد اختُبِرَتْ وتُختَبَرُ تجارِبُ ما فوقَ القوميَّةِ.
أمَّا العربُ، فتَراهم يَنزعونَ إلى تَصغيرِ الوحداتِ الجُغرافيَّةِ، ويَتوهَّمونَ أنَّها تَحميهم، فيَلوذونَ بالطَّائفةِ، والقبيلةِ، والعشيرةِ، وكُلٌّ يُريدُ تحويلَها إلى دولةٍ، والآخَرونَ يَهزَؤونَ ويُقدِّمونَ الإغراءاتِ الهوائيَّةَ والوعودَ الزائفةَ، فالقَبضُ على الكُتَلِ الصَّغيرةِ ونهبُها وتشغيلُها عبيدًا أيسرُ وأسهلُ.
٨
هذا الآن شأنُ سوريَّةَ؛ فالشعبُ يَتَلَهَّى ويَتَسَلَّى بحُروبٍ بين العشائرِ العربيَّةِ وطائفةِ المُوَحِّدينَ العربِ...
يا للهولِ! عربٌ يُقاتلونَ عربًا، والإسرائيليُّ يَسرَحُ ويَمرَحُ، ويَحتلُّ ويَنهَبُ المياهَ والأرضَ الخِصبةَ، ويُدمِّرُ البُنى التحتيَّةَ، والتُّركيُّ يَحتلُّ، والأمريكيُّ والأطلسيُّ يَقبِضونَ على مناطقِ الثرواتِ والجغرافيا الحاكمةِ.
السُّلطةُ الانتقاليَّةُ تُسلِّمُ الأمرَ للإسرائيليِّ والأمريكيِّ والتُّركيِّ، ولم تُقَدِّمْ وعدًا، ولا تَبَنَّتْ قضيَّةً وطنيَّةً لِيَتوحَّدَ القومُ عليها.
فكيف تكونُ دولةً مركزيَّةً ووحدةً وطنيَّةً بلا قضيَّةٍ وطنيَّةٍ؟! وكيف تتحقَّقُ عبر فصائلَ مُتَفَلِّتَةٍ وغريبةٍ وليستْ وطنيَّةً، حتَّى إذا مَنَحَتْهم السُّلطةُ الانتقاليَّةُ جنسيَّاتٍ ورُتَبًا ودورًا فيها؟
كيفَ؟ ومِن أينَ تأتي الوطنيَّةُ والوحدةُ الوطنيَّةُ في هذه الحالةِ؟
٩
أمَّا القَتلُ والتَّهجيرُ والمجازرُ وتدميرُ قرىً وبُلدانِ الآمِنينَ ونهبُها وتعفيشُها وسَبيُ النساءِ، فلا تُبطِنُ مشروعًا للدولةِ المركزيَّةِ ومنعِ التَّقسيمِ كما يتذرَّعُ أصحابُ السُّلطةِ.
أوَّلًا، يجب أن تكونَ دولةً، وموحَّدةً، وجيشًا وطنيًّا بعقيدةٍ ووظيفةٍ.
وأوَّلًا، يجب أن تكونَ سَيِّدةً، وتَحمي سيادتَها وكرامتَها، وتُؤمِّنَ شعبَها: "آمَنَهُم من خوفٍ، وأطعَمَهُم من جوعٍ."
فكيفَ لِمَن حَلَّ الدولةَ والجيشَ، وشَرْعَنَ سوريَّةَ لكلِّ عابثٍ وعابرِ سبيلٍ، أن يَبنيَ دولةً مركزيَّةً ويَفرِضَها بالقوَّةِ والإبادةِ؟ وبتَغذيةِ الفِتَنِ والاحترابِ الأهليِّ ويُفْتَعِلُها؟!
من أينَ تأتي تلكَ الأفكارُ؟! وهل يَكفي أن يَحتفي ترامب وويتكوف وبراك بالرئيسِ؟!
من فَوَّضَه؟! ومَن مَنَحَه الصِّفةَ؟! وأينَ الدُّستورُ، والانتخاباتُ النيابيَّةُ والبلديَّةُ؟! أينَ دورُ مُكوِّناتِ الشعبِ؟! وكيفَ تتجسَّدُ شراكتُهم ليَطمَئنُّوا للدولةِ المركزيَّةِ؟!
براك وترامب تُجّارٌ، ويُفاخِرونَ بتجربةِ نشوءِ أمريكا التي يَقودونَ ويَستثمرونَها وقوَّتَها في نَهبِها ونَهبِ الأُممِ والشعوبِ.
مُؤكَّدٌ: براك وترامب يُريدونَ قوَّةً مركزيَّةً تُمنَحُهم الامتيازاتِ والعُقودَ، وتُعطيهم فُرَصَ نَهبِ الثرواتِ، لِتأخذَ الفُتاتَ، وتَحمي المُستثمِرينَ المُستعمِرينَ، حتَّى بتقاليدِ الاستعمارِ القديمِ.
١٠
سوريَّةُ في فَوضى، وشَمالُ لبنانَ كممرٍّ لنفطٍ وغازِ شَرِكاتِ ترامب وويتكوف وبراك، وهَدفُهم إبادةُ أهلِها، وتَخريبُ سِلمِها الأهليِّ، ونَسفُ طَبائعِها وقِيَمِها، والذَّرائعُ والشِّعاراتُ تَنفيها الوقائعُ والمُعطَياتُ.
فـ فاقدُ الشَّيءِ لا يُعطيهِ.
جيشٌ من تَجميعِ الفصائلِ، وجُلُّ قادتِه من غيرِ السوريِّينَ، لا يُشكِّلُ عامودَ دولةٍ مركزيَّةٍ، وحكومةٌ كلُّها مِمَّن يَحملونَ الجنسيَّةَ التُّركيَّةَ، لا يَبنونَ دولةً ومُؤسَّساتٍ وطنيَّةً وسياديَّةً.
وهكذا الأمرُ...
١١
لا حَلَّ، ولا مَخرَجَ لسوريَّةَ والعربِ، إلَّا بالعودةِ لتَبَنِّي قضيَّتِهم الوطنيَّةِ والقوميَّةِ المركزيَّةِ.
هل سَيَفعلونَها؟
مُؤكَّدٌ، فَكما في كُلِّ أُمَّةٍ سُفَهاءُ، أيضًا فيها كَراماتٌ وعُقَلاءُ.
لمتابعة كل جديد الاشتراك بقناة الأجمل آت مع ميخائيل عوض على الرابط
https://youtube.com/channel/UCobZkbbxpvRjeIGXATr2biQ?si=K7Z8MQ2C3_G9TrJA