الأقليات في بلاد الشام: شركاء في اللغة والثورة وفلسطين
مقالات
الأقليات في بلاد الشام: شركاء في اللغة والثورة وفلسطين
وائل المولى
19 تموز 2025 , 21:59 م

من الهامش إلى المركز: الأقليات في قلب التاريخ

في خضم النقاشات الطائفية التي تعصف بالشرق الأوسط، يغيب كثيرا عن السردية السائدة دور الأقليات في بلاد الشام والعراق في صياغة المشروع العربي الحديث، من مقاومة الاستعمار إلى الدفاع عن اللغة العربية، ومن إشعال الثورات إلى نصرة القضية الفلسطينية، كانت الأقليات ليست عبئا على الأمة، بل أحد أعمدتها.

وإذا كان البعض يحاول حصر “الانتماء القومي” في الطائفة أو الأكثرية، فإن التاريخ يفضح هذا الادعاء؛ فقد كانت الأقليات حاضرة دوما في لحظات التحول الكبرى، تبني لا تهدم، وتؤسس لا تنفصل.

 في زمن العثمانيين: من صمت الجبال إلى صوت النهضة

رغم أن الحكم العثماني (1516–1918) حاول تتريك الهوية العربية، حافظت الأقليات على لغة الضاد في وجه الطمس الثقافي:

 • المسيحيون لعبوا دور الرواد في نهضة الأدب العربي، وأسسوا أوائل الصحف والمدارس.

 • بطرس البستاني وفرح أنطون وناصيف اليازجي أسّسوا لصحوة لغوية غير مسبوقة، أعلت من شأن اللغة العربية كلغة مدنية حديثة.

 • الدروز والعلويون، رغم تمركزهم في مناطق جبلية منعزلة، حافظوا على تراثهم العربي الشفهي، وارتبطوا بجذور الأرض واللغة.

ولم يقتصر الفضل على الرجال، بل برزت نساء من الأقليات في الدفاع عن اللغة والنهضة، مثل مي زيادة التي شكّلت رمزا ثقافيا وأدبيا عبر المشرق العربي، وجمعت حولها أعمدة النهضة الفكرية في بدايات القرن العشرين.

الثورات الوطنية: حين حملت الأقليات البنادق

 الثورة السورية الكبرى (1925–1927):

قادها سلطان باشا الأطرش (درزي) في وجه الاحتلال الفرنسي، وشاركت فيها جميع الطوائف، لترفع شعار “الدين لله والوطن للجميع”، وتؤكد أن الانتماء الوطني لا يُقاس بالعِرق أو المذهب.

 فلسطين وثورتها ضد البريطانيين:

 • شارك مقاتلون وداعمون من الأقليات في سوريا ولبنان والعراق في الثورات الفلسطينية منذ عام 1936.

 • ظهر دعم لوجستي وسياسي من شخصيات شيعية ومسيحية، خصوصًا في جنوب لبنان والبقاع، حيث كانت القرى تُستخدم كمحطات دعم للثوار في الجليل الأعلى والجليل الغربي.

 فكر الأقليات… وصياغة العروبة الحديثة

رغم الإقصاء، أسّست شخصيات من الأقليات كبرى التيارات القومية العربية:

 • ميشيل عفلق (مسيحي): مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي جمع في شعاراته بين الوحدة والحرية والإشتراكية .

 • أنطون سعادة (مسيحي): مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، وداعية لفكرة الأمة التاريخية في مواجهة التقسيمات المذهبية.

 • قسطنطين زريق (مسيحي): واضع مفاهيم “النكبة” و”الهوية القومية الحديثة”، وداعية للتعليم كمحرّك للنهضة.

 • كمال جنبلاط (درزي): صوت تقدمي دافع عن فلسطين، وأسس الحزب التقدمي الاشتراكي على قاعدة الاشتراكية العربية والوحدة.

الشيعة والعلويون… من الثورة إلى المقاومة

? في لبنان:

 • الإمام موسى الصدر أعاد ربط الهوية الشيعية بالمشروع العربي، وأسس لحركة “المحرومين” دفاعا عن العدالة وفلسطين.

 • السيد حسن نصر الله جعل من حزب الله قوة مواجهة مركزية في الصراع مع إسرائيل:


 ◦ قاد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000.

 ◦ واجه إسرائيل في حرب تموز 2006.

 ◦ قدّم دعما صريحا للفصائل الفلسطينية، وكان خطابه عابرا للطوائف والمذاهب.

? في سوريا:

رغم الطابع الاستبدادي للنظام السياسي، فقد رفع النظام بقيادة حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد شعار المقاومة، ووفّر دعما سياسيا ولوجستيا لفصائل فلسطينية عديدة من دمشق، وكذلك الأمر للمقاومة اللبنانية والعراقية ما جعله جزءا من ما سُمّي بـ”محور المقاومة”.

الشيعة في العراق: جذور ثورية وهوية مقاومة

? ثورة العشرين (1920):

 • قادها علماء النجف وكربلاء، وعلى رأسهم الشيخ محمد تقي الشيرازي ضد الاحتلال البريطاني.

 • كانت أول ثورة عربية شيعية–سنّية جامعة، عبّرت عن وعي سياسي عابر للطوائف.

? المفكرون الشيعة:

 • محمد باقر الصدر: عقل سياسي إسلامي فذ، ربط بين العدالة والدولة، ودعا لتحرير فلسطين.

 • الجيش العراقي، بمكوّنه الشيعي الكبير، شارك بفاعلية في حرب 1948، لا سيما في الدفاع عن جنين ونابلس، وقدم عشرات الشهداء في معارك مباشرة مع القوات الصهيونية.

? المرجعية العراقية:

 • المرجع علي السيستاني أعلن مرارا أن “فلسطين قضية الأمة كلها”، رغم الأوضاع الصعبة في العراق بعد 2003، مشددا على وحدة الدم العربي والإسلامي في مواجهة الاحتلال.

 الأكراد… بين القومية والمشاركة

رغم تعرضهم للتهميش والاضطهاد، كان للأكراد دور في الحراك العربي العام:

 • الشيخ سعيد في تركيا ومحمود الحفيد في العراق كانا جزءًا من الثورات الوطنية ضد الاستعمار.

 • في سوريا والعراق، ساهمت شخصيات كردية في الحركات الثقافية واليسارية.

 • الكردي جكرخوين خلّد القصيدة الثورية، بينما شارك مقاتلون أكراد في دعم الثورة الفلسطينية، لا سيما من خلال الفصائل اليسارية العابرة للطوائف.

 الفن والثقافة: لغة أخرى للعروبة الجامعة

بعيدا عن السياسة والميدان، كان للأقليات دور ريادي في تشكيل الذائقة الثقافية العربية:

 • مارسيل خليفة (مسيحي لبناني)، غنّى لفلسطين، والمقاومة، والحرية، وجعل من العود سلاحا وطنيا.

 • ريما خشيش وجوليا بطرس قدمن أغانٍ وطنية تتجاوز الطائفة إلى الإنسان.

 • المسرح العربي في بيروت ودمشق والموصل اعتمد كثيرا على جهود كتاب وممثلين من الأقليات في بناء خطاب مدني مشترك.

خاتمة: من ينكر الدور… يزوّر التاريخ

الأقليات في بلاد الشام والعراق لم تكن أقلية في الموقف أو في الكرامة، بل:

 • حملت اللغة العربية في وجه التتريك.

 • أشعلت الثورات ضد الفرنسيين والبريطانيين.

 • أسّست الفكر القومي العابر للطوائف.

 • رفعت راية فلسطين في الميدان والمنبر.

 • أنتجت الثقافة، وغنّت للحرية، وواجهت الاستبداد.

واليوم، في ظل تصاعد الخطابات الطائفية والاستقطاب السياسي، يجب أن نستعيد سردية الانتماء العابر للطائفة، لأن الأمة لا تبنيها الهوية المذهبية، بل تبنيها القيم والمواقف والانتماء للحق