مندوبو أمريكا في الشرق الأوسط: وجه الاستعمار الحديث
مقالات
مندوبو أمريكا في الشرق الأوسط: وجه الاستعمار الحديث
وائل المولى
24 تموز 2025 , 06:24 ص

في الشرق الأوسط، لا تأتي الكوارث من فراغ، بل غالباً ما تسبقها زيارة "مبعوث أمريكي خاص"، يحمل في حقيبته خرائط جديدة، واتفاقيات مُعلّبة، ووعودا بالاستقرار... تنتهي دائماً بالحرب، أو الفوضى، أو التقسيم.

‏منذ السبعينات وحتى اليوم، تعاقب على المنطقة عدد كبير من هؤلاء "المبعوثين"، بعضهم دبلوماسيون رسميون، وآخرون رجال ظلّ بأدوار غير معلنة، لكن القاسم المشترك بينهم: تنفيذ الإرادة الأمريكية، وتفكيك ما تبقّى من استقلال الشعوب والدول.

‏ من لبنان بدأ كل شيء

‏كانت بيروت أول ساحة لتجريب هذا النموذج. ففي عام 1975، أُرسل المبعوث "دين براون" إلى لبنان مع اندلاع الحرب الأهلية، في محاولة للحدّ من النفوذ الفلسطيني، لم يكن هدفه إنقاذ لبنان، بل حماية النظام القائم من خطر التغيير.

‏لاحقا، ظهر فيليب حبيب كمبعوث خاص في 1981 خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، قاد مفاوضات أدت إلى إخراج منظمة التحرير من بيروت، وفي عهده وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا، تحت سمع وبصر الإدارة الأمريكية.

‏القضية الفلسطينية: تسويات بلا سيادة

‏في عهد كلينتون، برز اسم دينيس روس، المبعوث الأبرز لعملية السلام بين 1993 و2000، كان منسقا لاتفاق أوسلو، لكنه في العمق مهندس تجميد الحقوق الفلسطينية. عمل روس على تفريغ المشروع الوطني الفلسطيني من مضمونه، مقابل وعود غربية لا تصل.

‏ثم جاء من بعده جورج ميتشل (2009–2011) ومارتن إنديك (2013–2014) في عهد أوباما، لتكرار محاولات التسوية، لكن دون أي ضغط جدي على إسرائيل، بل بمنطق تحميل الضحية عبء التنازلات، واستمرار الاستيطان كأمر واقع.

‏العراق: مختبر الدمار الأمريكي

‏عام 2003، عيّنت إدارة بوش بول بريمر حاكما مدنيا للعراق بعد الغزو، خلال عامٍ واحد، حلّ بريمر الجيش العراقي، وحزب البعث، وكل بنية الدولة، فاتحًا البلاد للفوضى الطائفية، ولتمدد النفوذ الإيراني والأمريكي معا.

‏سياسات بريمر لم تكن "أخطاء إدارة"، بل كانت تنفيذا دقيقا لخطة إعادة تشكيل العراق على أسس طائفية، وتحطيم فكرة الدولة المركزية.

‏ بولتون: الوجه العلني للاستعمار الخشن

‏لم يحمل دائمًا صفة "مبعوث"، لكنه من أكثر الشخصيات تأثيرا، جون بولتون، أحد رموز المحافظين الجدد، شغل مناصب هامة بينها مندوب أمريكا في الأمم المتحدة (2005–2006)، ثم مستشار الأمن القومي (2018–2019).

‏كان بولتون الصوت الأكثر تحريضا على الحرب ضد إيران، وداعمًا لتفكيك سوريا، وأحد المهندسين للانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران.

‏صوته العالي لم يكن خطأً دبلوماسيا، بل تعبير صريح عن منطق الهيمنة الأميركية في المنطقة.

‏ زمن التطبيع والخرائط الجديدة

‏في عهد ترامب، ظهرت وجوه جديدة بملفات قديمة، مثل جيسون غرينبلات (2017–2019)، الذي لعب دور "عرّاب صفقة القرن"، وآفي بيركوفيتش (2019–2021)، الذي تابع المهمة بالتوازي مع إبرام اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج.

‏صفقة القرن لم تكن اتفاق سلام، بل وثيقة استسلام سياسي وثقافي، تهدف إلى دمج إسرائيل كقوة إقليمية شرعية، وإخراج فلسطين من المعادلة.

‏مندوبو الظلّ: توماس براك وفيلتمان وأبرامز

‏بعض المبعوثين لم يظهروا بصفة رسمية، لكن أدوارهم كانت خطيرة ومباشرة:

‏توماس براك، رجل الأعمال اللبناني–الأمريكي، المقرّب من ترامب، لعب دور الوسيط مع السعودية والإمارات، وشارك في التحضير لاتفاقيات التطبيع، وظهر اسمه لاحقا في تسويات تتعلق بسوريا وجنوبها.

‏جيفري فيلتمان، المسؤول في الخارجية ثم في الأمم المتحدة، أشرف على ملفات لبنان وسوريا من الخلف، وكان من صقور التغيير الناعم داخل النظام الإقليمي.

‏إليوت أبرامز، أحد عرّابي التدخلات العسكرية، أدار الملف الإيراني في إدارة ترامب، ودعا علنًا لتغيير الأنظمة بالقوة.

‏ الغاز بدل القنابل... و"قسد" بدل الجيوش

‏في عهد بايدن، ظهرت أدوات جديدة بأسماء قديمة. عاموس هوشستين، مبعوث الطاقة، هندس اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والذي أعطى تل أبيب حصة واسعة من الثروات البحرية.

‏أما بريت ماكغورك، منسق الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي منذ 2021، فهو اليوم المبعوث غير المعلن للمنطقة بأكملها: يشرف على دعم "قسد" شرق سوريا، ويتحكم بالتفاهمات بين واشنطن وبغداد، ويتدخل في مصير لبنان من خلف الستار.

‏من فيليب حبيب إلى ماكغورك، ومن بريمر إلى بولتون، تعددت الوجوه وتغيّرت العناوين، لكن الثابت الوحيد أن أمريكا لا ترسل مبعوثيها لنزع فتيل الأزمات، بل لإعادة إنتاجها بشروط جديدة تخدم مصالحها.

‏هؤلاء ليسوا دبلوماسيين، بل مهندسو استعمار حديث، بأدوات ناعمة حينًا، وخشنة حين يلزم الأمر.

‏وإذا كان الاستعمار القديم يأتي بالدبابة، فإن الجديد يأتي بالورقة والقلم، وباسم "الوساطة"، و"التطبيع"، و"الاستقرار".

‏لكن خلف كل كلمة ناعمة، هناك خريطة تُرسم، وبلد يُقسم، وشعب يُدجَّن.