حين يعلو صراخ التكفير، وتدغدغ مشاعر البسطاء بشعارات ” الخلاص الطهوري“ و”الفرقة الناجية“، فاعلم أن في الأفق مشروعا تفتيتيا ناعما بواجهة عقدية، لكن جوهره يدار في ”مختبرات جيوسياسية“ تتقن تصنيع اليقينيات المطلقة لأهداف نسبية.
في زمن الأشلاء المؤدلجة، لامكان للتردد، بل صار لزاما إشهار سلاح سرعة التصرف ضد التطرف، برد تكتيكي- سايكولوجي- تربوي- حضاري، لايهادن في المبادئ ولايساوم في المصير. لقد نمى هذا الفكر الشمولي المتشدد في حضانة تاريخية ذات طابع رملي جاف، حيث الوعي لايتجذر، والفتاوى تلقح بالسياسة وتسوق كأنها من المنطلق السماوي.
مشايخ الفرقة الذين يتلونون بلبوس المصلحين يحرمون الإجتهاد ويقدسون النقل الأعرج، ويصمتون حين ينتهك الأقصى المبارك، لكنهم يرفعون الصوت في وجه طفل هتف في الشام أو بغداد.
هذا ليس من بنات أفكارهم، بل من ”هندسة معرفية“ صممت في عواصم لاتعرف الطهارة أو الوضوء، لكنها تحسن غسل العقول. الأدوات معروفة: تكفير المخالف، تهشيم المختلف، تجريم كل من لايسبج بحمد” النسق الوحيد". أما الغابات فهي في تفتيت الروح الجماعية و تفكيك الهوية الجامعة، خدمة لمشاريع ماوراء الاطلسي. ماارتكبته هذه الجماعات والقطعان ”الاوطنية- الا حضارية“ من فظائع في المشرق والمغرب تشيب من ذكر هولها وبشاعتها روؤس الغلمان وتقشعر منها الأبدان. الإجرام الذي يوازي ما إقترفته قوى الإستعمار المعاصر. فتاوى تغتصب النص، وأحزمة تحول الجسد إلى أشلاء متناثرة، و شعارات تحلل السبي وتجرم السلام، بينما العدو الحقيقي يبني مستوطناته بأريحية ويضحك من وراء الحدود. والعجيب الغريب إن شئت الدقة- أن من كان بالأمس حاضنة لهذا الفكر المتصلب، عاد اليوم يعتذر ويتبرأ منه، هذا أمر لابأس فيه.وكان قد فعل ذلك بعدما إكتوى بناره داخليا وبدد بسببه أرصدة المصداقية خارجيا، فماذا ننتظر نحن؟ أليس أولى أن تسخر الطاقات الفكرية والمالية لإحياء مدارس القيم، لاتمويل منابر الجهل المقدس؟ أليس من الحكمة أن ننتقل من صراع الطوائف إلى وحدة الصفوف، وأن نكف عن التراشق بالفتاوى، ونتجه نحو مقاومة العدو الوجودي لا الهوية الفرعية؟
إن معركة اليوم ليست عسكرية فقط، بل معرفية- إعلامية- سايكلوجية- روحانية. لابد من تجفيف منابع التحريض، وإغلاق الحواضن التي تخرج ” العقول المفخخة“. فالرحمن لايعبد بالذبح، والجنة لاتشترى بلحية أو عباءة بل بسلام القلب وسلامة النية. و الإسلام الحنيف - برغم ماحمل زورا باسمه- بريئ من عبث الفتاوى، ومن استعراضات ” الرجال الخطبيين“ الذين بشبهون في فكرهم وتقنياتهم قطعانا غريبة عن الحضارة. التحرر من هذا الداء الفكري الذي أصاب أمتنا الإسلامية لايكون إلا بتقارب الطوائف، ووعي الأمة، وإدراك أن العدو الحقيقي لايلبس العباءة، بل البزة العسكرية الغازية، وأن مشروع ” الهلال والخطوط“ ليس إلا ستارا لمحو معالم الإستقلال. أخيرا...
سرعة التصرف ليست نزقا، بل حصافة. ومواجهة التطرف ليست عداء للدين، بل دفاع عنه بكل تأكيد. والوعي اليوم ليس ترفا...بل فرض عين.
مفكر وباحث سوري في الغربة