كتب الدّكتور علي حجازي:
ثقافة
كتب الدّكتور علي حجازي: "كفّا أمي وحضن أبي"
د. علي حجازي
20 تشرين الأول 2025 , 22:09 م


باكراً، أيقظنا أبي، طالباً إلينا اللحاق به إلى مساكب التبغ بغية اقتلاع الشتلات وغرسها في "جلّ الحندقوقة" .

لم نتأخر، لأنّ أميّ نابت عنه في استعجالنا، مسوِّغة دعوتها وإلحاحها في الطلب، بخوفها من القصف اليومي المعتاد، والذي تسبقه طائرة الاستطلاع الإسرائيلية التي نسمّيها "ام كامل" محدّدة الموقع بعد انعطافها عن المكان الذي تصل إليه.

حملنا صندوقيْ الشتل على ظهر الحمار وتوجَّهنا، أنا وأخوتي القادرين على تحمّل أعباء زراعة التبغ ، تاركين الآخرين في المنزل لعدم قدرتهم على الزراعة.

أميّ تأخَّرت قليلاً، نظراً لانشغالها بإعداد الترويقة.

وصلنا إلى جلّ الحندقوقة الواقع على كتف "وادي الميس"، إلى الجهة الغربيّة من القرية، المقابلة لبلدة تولين.

اكتمل العقد بوصول أمّي حاملةً الترويقة على رأسها، فجلسنا على الربعة، وأسرعنا نتناول الفطور المكوّن من الشاي واللبنة البلدية، والصعتر، والجبنة والبيض المقلي.

لحظات مضت، حمدنا الله، ونهضنا نباشر العمل بهمّة زائدة بغية العودة قبل ابتداء القصف.

لم نستطع إخفاءالحذر المرتسم على حدقاتنا، لأنّنا في مكان مكشوف لا مخبأ فيه للاحتماء.

ساعة مضت، حبست فيها أمّي أنفاسها،كانت صامتةًوهي تسرق التفاتات عديدة إلى الشرق، إلى فلسطين المحتلة التي تنطلق منها طائرة "الأم كا".

لا أقدر على وصف حالنا لدى سماعِنا هديرَ الملعونةِ القادمة بصوتٍ يملأُ السماء، شبيهٍ بصوتِ مِثقب كبير(كمبريسور)، يثقب الآذان.

ألقى كلّ منّا ما بيديه، وأسرعنا نلبّي توجيهات أبي الصارمة التي بتنا نحفظُها عن ظهرِ قلب:

- انبطِحوا، ولْيَضَعْ كلٌّ منكم كفَّيْهِ فوق رأسه .. هيّا أسرِعوا.

وبينما كنت منبطحاً، رفعتُ رأسي، وشرعتُ أتفقّدُ مواقع انتشار أبي وأمي وإخوتي، ولَكَمْ كانت صدمتي كبيرةً، عندما أبصرتُ أُمّي منتصبةً، وعيناها تُحدّقان إلى الطائرة تارةً وإلينا أخرى. ولمّا انعطفت "أمّ كامل" من فوقنا، سمعتها تصرخ:

- يا ويلي، وقعت الواقعة.

وسُرعانَ ما فرشت كفيّها في الهواء، محاوِلةً اِتِّقاءَ القذيفة التي سمعناصوتها لدى إطلاقتها، لقد كانت تصفر صفيراًمُرعباً، كان رأسُ أُمّي يميلُ مع اقترابِ الصفير. فَصرَخْتُ:

- أمي انبطحي، ستصل.

لم تسمع صوتي على ما يبدو، كانت عيناها تحتضنان وجوهنا، تتفقَّدنا، وتتفقّد البقرة والحمار. فجأة، أبصرتُ أبي يُهْرَعُ إليها، محاولاً إنزالها إلى الأرض، لِاتِّقاءِ الشظايا فلم يقدر.

"يا ألله! كيف يَعْجِزُ أبي ذو البنيةِ القويّةِ عن ذلك، في هذه اللحظة الصعبةِ؟" ( همَسْتُ )

لحظة وانفجرتِ الملعونة على بُعدِ أمتارٍ منَ المكانِ الذي يرعى فيه الحمار والبقرة، فنهضنا مسرعين نتفقّدُهما، كانا يرتجفان.

- أتركوا البقرة والحمار وارجعوا إلى البيت، فهما سيسبقاننا إليه، وهذا الأمر اعتادا عليه. (قال أبي).

أخذنا نعدو بِاتِّجاهِ البلدة، تلبيةً لأوامرِ السيّدِ الوالدِ الذي سبقه الحمار. وتوجّهَتْ أمّي صوبَ البقرة التي شرعت هي الأُخرى تعدو مسرعةً إلى البيت.

لم تكن عائلتنا الوحيدةَ التي سكن الرعبُ أفرادَها ، لحظة بدء القصف الصهيونيّ الغادرالمركّز، والذي تحدّده طائرة الاستطلاع، فمنظر الشبان والصبايا، الآباء والأمهات الذين تركوا شتول التبغ مرميّةً في عين الشمس الشاهدة على أرضٍ اغتَصَبَتْ منها عصاباتُ "الهاغانا" الأمنَ والأمان؛ بتوالي عمليات الاستطلاع والقصف، وتوالي عمليات الهروب التي تسبق تبادلَ الأهالي زياراتِ الاطمئنان، تسبقهم دعواتُهمُ الراجيةُ اللهَ أن يحميَ الجميعَ مِنَ المصائبِ المصبوبةِ صبّاً على رؤوسهم، صبحاً ظهراً ومساء.

بعد موجةِ القصف المُرّة هذه، كانت دروبُ الحقولِ تشهدُ حركةَ عودةِ الأُسَرِ التي غادرَتْها قبلَ ساعاتٍ، بُغْيَةَ إكمالِ عمليةِ زراعةِ الشتولِ التي أصابهاالذبولُ، جرَّاءَ حرارةِ الشمس.

لدى وصولنا، أسرع ابي يحتضننا، ويُقبُِّلنا ، حامداً اللهَ على سلامتِنا وسلامةَ البقرةِ والحمار .

أمّا أمّي فرفعت كفيّها إلى السماء، وشرعت تدعو الله أن يحمَيَنا من هذه العصابة التي تعمل بكلّ ما تملك، من أجل دفْعِنا إلى هجرةِ هذهِ البلدةِ الحدوديةِ المتروكةِ لِقدَرِها التي غرسنا فيها دماء أحبّةٍ، ولنا في حناياها مقبرةٌ تحتضنُ قلوباً قاست لأجحلِها طويلاً قبل أن تذوب فيها، وغرسنا فيها تيناً وزيتوناً، وأنواعاً أخرى لا تزال جذورها متشبِّثة فيها إلى ما بعد زوال هذا الكيانِ، بإذن الله، بإذن الله.

قبريخا في 21/6/2022

جرت أحداث هذه القصّة في يوم من أيام 1968 وتكررت مرَّات عديدة بعد ذلك.