اعـتـرافـنـا بِعُمقِ أزمـاتِنـا ومأزِقِنـا يرسم طَريقًا لحُلولٍ ناجِحة
مقالات
اعـتـرافـنـا بِعُمقِ أزمـاتِنـا ومأزِقِنـا يرسم طَريقًا لحُلولٍ ناجِحة
راسم عبيدات
8 تشرين الثاني 2025 , 09:12 ص


راسم عبيدات

أزماتنا تتعمّق، ونُوغِل في التيّه وتمزيق مجتمعاتنا: «طوش» واحتراب عشائري وقبلي يخترق ويدمّر «جُدران» وحدتنا المجتمعية والوطنية، ويخلق ندوبًا وثاراتٍ عميقة في المجتمع يصعب دملها. لا قيادات على مستوى التحدّيات والمخاطر، لا وطنية ولا مجتمعية — هم أغلبنا الصورةَ والإطارَ، وما يُعرَف بلُغة «الفيسبوك» ووسائل التواصل الاجتماعيّ: «الشو». مجتمعاتنا تُذَبَح من الوريد إلى الوريد، ونُكَابر بأنّنا خيرُ أُمةٍ أُخرِجَت للناس. البعض منا، في إطار الحجر على العُقول، يريد للتاريخ أن يُعَيّشنا كما كان قبل خمسة عشر قرناً؛ نريد أن «نهندِس» التاريخَ وفق رؤيتنا وقناعاتنا، والتاريخُ يسير دوماً إلى الأمام بشكلٍ لولبيّ صاعد. المبادراتُ الخلّاقة تغيب، ونقتل أيَّ إبداعٍ وتغيير، ونُكفِر ونُخون وفق أهوائنا وأمزجتنا، وبما يخدم مصالحنا وأجنداتنا.

نريدها خلافةً راشدةً مرشودةً، ونحن ندرك تماماً، في قراءتنا للتاريخ بشكلٍ علميّ، بأنّ أغلب الخلفاء ماتوا أو قُتلوا على يد أقرب المقربين إليهم. وأزيدكم من الشعر بيتاً: عندما تولى العبّاسيّون الخلافة، أخرجوا بعض جثث الخلفاء الأمويّين من القبور وجلدوهم. يبدو أنّ جين الخلافات والانقسامات متأصّلٌ فينا؛ نريد للعرب أن يُنحوا خلافاتهم جانباً ويتّحدوا، ونحن، على مستوى الحارة الواحدة، خلافاتٌ ومقاطعات اجتماعية، وفي البلدة الواحدة يصعب التوفيق بين مختارين وليس عشيرتين.

نحن بحاجةٍ إلى مَن يفكرون «خارج الصندوق» ويُخرِجون على طوع من يتمسّكون بالماضويّة؛ فالتاريخ والعالم يتغيّران ويتطوّران، ونحن نزداد تكلّساً وتخلّفاً، وهناك مَن يفخرُ ويعتزّ ويقدّس ذلك. نُردّد نفس الأدعية والشعارات والكلمات والمفردات، ونستمرّ في الندب والبكاء والعويل، ولا يوجد من يُعلّق الجرس، ونُقدّم ونُعلي انتماءاتنا العائلية والقبلية والعشائرية على الانتماء الوطني. حتى عندما فاز الشابُ زهران ممداني بعمدة نيويورك — إحدى قلاع الصهيونية — تحرّكت الآلة المذهبية للقول والتحريض بأنّ ممداني شيعيّ مجوسيّ رافضيّ ومتزوج من علوية، في حين عرف الرجل نفسه بالقول: «أنا مسلمٌ وشيوعيٌّ وديمقراطيّ، ولن أتنازل عن أحدٍ من هذه».

نحن مسكونونَ بالجبن والخوف في قضاياْنا الوطنية والمجتمعية؛ نستأسدُ على بعضنا البعض حتى القتل على أتفه الأسباب، في حين أنّ في قضاياْنا العامة والوطنية والمجتمعية، التي تحتاجنا جميعاً، لا نجد إلا قلةً قليلةً تقاتل وتحارب على هذه الجبهة. عمليات القتل والإجرام في مجتمعنا الفلسطيني في تزايدٍ مستمر، رغم أنّنا كلّنا مصلحون ومتديّنون ورجال فكرٍ وعلمٍ وصُلاحٍ وأتقياء، وفي الواقع ما يجافي ذلك. ويُقال: نحن فاسدون ومفسدون وعجزةٌ وعاجزون، أصحابُ شعاراتٍ واستعراضات و«منفخات» فارغة، «قادة بحجم وطن»، وقِياداتٌ لها مرتزقةٌ يطبلون ويسحجون لها. القتلُ والجرائمُ في الداخل الفلسطيني – 48 – في كلّ عام تزداد نسبةُ الجريمة والقتل عن عامِها السابق، ونستمرّ في ترداد نفس الإسطوانة، ونجد نفس الشماعة التي نعلّق عليها ذلك: بأنّ الاحتلالَ وأجهزته الأمنية تغذي وتحتضن وتتواطأ وتتستر على ذلك. وإن كنا ندرك بأنّ هذا صحيح، إلا أنّ هناك قصورًا ذاتيًا في التربية والتوعية والحساب والمحاسبة على كلّ المستويات. كما نُلاحظ أنّ هذه العدوى تنتقل إلى الضفة الغربية والقدس بشكلٍ سريعٍ ومتسارع، بحيث بات خطرُ الجريمة والعنف والاحتراب العشائري والقبلي وتدمير النسيج المجتمعي يتقدّم على خطر الاحتلال.

وليس هذا فحسب، بل ما نشاهده على مستوى المدارس والمؤسسات التعليمية، والعنف المستشري بين الطلبة، حيث بات الطلبة يتسلّحون بالأدوات الحادة، ويعتدون على المدرّسين وعلى بعضهم البعض، ويدخلون الأسرَ والعائلات في «طوش» جماعية.

نعم، نحن نغرق في عمقِ أزماتنا، نستمرّ في المكابرة، لا نعالج الجريمة أو المشكلة قبل وقوعها، ولكن بعد وقوعها؛ نحشِد رموزًا عشائرية ووطنية ومجتمعية، ونُعلي قدرَ وشأنَ «فنجان القهوة» صاحب الحلول السحرية، ونتحدّث عن التسامح والكرم العربي الأصيل، وبأنّ ما حصل غريب عن عاداتنا وتقاليدنا، ونحن ندرك بأنّ كلّ ذلك كذبٌ في كذب، ولا نتجرّأ على قول الحقيقة. وما أن ينفضّ «المولد»، حتى ندخل في مأزقٍ أعمق، وتتكرّر المشاكلُ والخلافاتُ على نحوٍ أشرس وأشدّ، حيث تغيب الحلولُ الجديةُ والرادعة، ونتسابق على عقد مؤتمرات واجتماعات لحماية السلم الأهلي والمجتمعي، والتي تكون في أغلبها دون خططٍ أو برامج أو آليات ومعالجات حقيقية.

لا بديلَ عن استمرار عمليات التوعية والتثقيف، وتشكيل لجانٍ مجتمعيةٍ ومؤسساتٍ تسهم في بناء وعيٍ وثقافةٍ جديدةٍ تغلبان الانتماءَ للوطن على الانتماءات العشائرية والقبلية والجهوية والطائفية. فالمحتلّ يعمل بلا كلل لخلق هوياتٍ فرعية لنا، بديلاً عن هويتنا الوطنية الفلسطينية، ولكي يثبت مقولةَ قادته بأنّنا ليس شعبًا، بل مجموعاتٌ سكانيةٌ بهويات فرعية مختلفة.

عمليّةُ تحرير العُقول هي قضيةٌ مركزيةٌ يجب أن تكون في قيمنا وفي ثقافتنا وفي حملات التوعية التي نقوم بها.

فالحربُ التي يشنّها علينا الاحتلال، يريد من خلالها أن يلحقَ بنا هزيمةً شاملةً، وبالذات على جبهة الوعي، وإظهارنا بأنّنا شعوبٌ متخلّفةٌ و«متوحّشة» وغير قابلةٍ للتطوّر. ويأتي هذا في سياقِ تبريرٍ للجرائم والمجازر التي يرتكبها بحقّ شعبنا الفلسطيني وشعوبنا العربية. ولذلك، واجبُ قادة الفكر والرأي، وكذا القوىُ والأحزاب والمؤسسةُ الرسمية ولجانُ الإصلاح، أن تضع في صلبِ برامجها وخططها بأنّ حمايةَ النسيجين الوطني والمجتمعي من التهتُك والاختراق يجب أن تقف على رأسِ سلم أولوياتها.

قضيتُنا في أدقّ وأخطر مراحلها، والمشاريعُ التي تُحاك لطردِنا وتهجيرِنا وإنهاء قضيتِنا لا تتوقّف؛ ولذلك يجب أن لا نكون بأفعالنا وخلافاتنا وانقسامنا واحترابنا القبلي والعشائري معاولَ هدمٍ تسهم في تحقيق مشاريع وأهداف القوى المعادية.

فلسطين – القدس المحتلة

8/11/2025

[email protected]