بعد أكثر من 50 عاما من الاحتفاظ بعينة صغيرة من تربة القمر داخل غرفة خاصة مليئة بالهيليوم، تمكن العلماء من فكّ أحد أسرار النظام الشمسي المبكر. فقد كشف تحليل دقيق لذرات من مركّب الترويلِت (troilite)، مزيج من الحديد والكبريت، ضمن عيّنة جمعتها مهمة أبولو 17 عام 1972 عن مادة قد تكون قديمة بقدر عمر القمر أو حتى أقدم منه.
يقول عالم الكواكب جيمس دووتين من جامعة براون في الولايات المتحدة: «كانت ردة فعلي الأولى: هذا غير منطقي أبدا!».
لكن الفريق أعاد الفحص بدقة ليتأكد، وكانت النتائج صحيحة وصادمة بالفعل بخسب موقع ScienceAlert .
عيّنات أبولو … أسرار تنتظر التكنولوجيا الحديثة

بين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أعاد رواد أبولو إلى الأرض أكثر من 382 كيلوغراما من العينات القمرية. وبسبب توقّع العلماء لتطور تقنيات المستقبل، حفظوا بعض العينات دون فتحها لعقود، بانتظار أجهزة أكثر تقدما لإجراء تحاليل عالية الدقة.
إحدى هذه العينات المحفوظة كانت جزءا من أنبوب الحفر 73001/2، والتي استخدمها فريق دووتين بهدف تتبّع أصل الكبريت داخل الترويلت من خلال قياس نسب نظائر الكبريت عبر مطيافية الكتلة
لماذا الكبريت مهم؟
الكبريت عنصر مفتاحي في دراسة الأجسام الكوكبية، فهو:
يرتبط بالحديد والمعادن الثقيلة
ينتقل بين اللب والوشاح والسطح
يحتفظ ببصمة نظائرية تكشف بيئة تكوّنه
يساعد في تحديد أصل العيّنة وعملية تشكّلها وعمرها
النظائر هي نسخ من العنصر نفسه تختلف بعدد النيوترونات، وتغيير نسبها يقدّم «باركود كيميائي» فريدًا يخبر العلماء بتاريخ المادة.
المفاجأة: نظائر كبريت غير موجودة في أي عيّنة قمرية سابقة
توقّع العلماء أن يجدوا أنماطا نظائرية شبيهة بما يوجد في الصخور البركانية، مثل ارتفاع طفيف في نظير الكبريت-33. وهذا بالفعل ظهر في جزء من العينات.
لكن المفاجأة الحقيقية جاءت عندما وجد الفريق انخفاضا كبيرا وغير مسبوق في نسبة الكبريت-33 في أجزاء أخرى.
يقول دووتين: «كان الاعتقاد السائد أن الوشاح القمري يحمل نفس التركيب النظائري للكبريت الموجود على الأرض. ما وجدناه يخالف ذلك تمامًا».
هذا النمط لم يسبق رؤيته في أي عيّنة قمرية، ولا يمكن تفسيره إلا بطريقتين، وكلتاهما تشير إلى أن المادة قديمة للغاية.
السيناريو الأول: الكبريت من القمر الفتيّ نفسه
قبل 4.5 مليار سنة، حين كان القمر يتشكّل، يُعتقد أنه كان مغطى بـ محيط من الحمم المنصهرة.
وعندما بدأ هذا المحيط يبرد ويتصلب، ربما تبخر الكبريت-33 من السطح تحت تأثير ضوء الشمس فوق البنفسجي، تاركا خلفه نظائر أثقل.
هذا يعني أن الكبريت قد يكون من بقايا الغلاف الجوي القمري البدائي.
السيناريو الثاني الأكثر إثارة: الكبريت جاء من الكوكب «ثيا»
النظرية الأبرز لتشكّل القمر تقول إن الأرض المبكرة اصطدمت بجسم بحجم المريخ يُسمّى ثيا (Theia). بعض هذا الجسم تلاشى داخل الأرض، وبعضه تكوّن منه القمر.
لكن من الممكن أيضًا أن يكون جزء من مادة ثيا بقي محفوظا داخل القمر نفسه.
إذا كان الكبريت المكتشف يعود إلى ثيا، فهذا يعني أننا أمام مادة كوكبية بدائية لم تصل إليها يد التغيير منذ نشأة النظام الشمسي.
ما النتائج المترتبة على الاكتشاف؟
هناك احتمالان مثيران:
1. وجود دورة مادية داخلية قديمة على القمر
إذا تعرض الكبريت لتفاعل ضوئي على السطح ثم انتقل إلى الوشاح، فإن ذلك يشير إلى آلية تبادل داخلية كانت تعمل في القمر المبكر ، رغم أنه لا يملك صفائح تكتونية مثل الأرض.
يقول دووتين: «لو صح هذا، فهذا يعني اكتشاف ديناميكية داخلية لم نكن نعتقد أنها موجودة على القمر».
2. استبعاد بعض نظريات تشكّل القمر
لو تشكّل القمر فقط من بقايا اصطدام الأرض وثيا، فمن المفترض أن يكون الكبريت موزّعًا بالتساوي في الوشاح القمري.
لكن الاكتشاف يشير إلى العكس، مما قد يعيد فتح النقاش حول كيفية تكوّن القمر.
خيط رفيع يقود إلى أصل النظام الشمسي
تؤكد هذه النتائج أن ما لدينا ليس إلا عيّنة وحيدة كانت مخزّنة منذ سبعينيات القرن الماضي. وسيحتاج العلماء إلى المزيد من العينات من:
القمر والمريخ والكويكبات لبناء صورة أدق عن تاريخ النظام الشمسي.
مهما كان مصدر الكبريت الغريب، فإن هذه الذرات المتناهية الصغر تُعد أقدم توقيع كبريتي اكتُشف على القمر على الإطلاق، وقد تكون مفتاحًا لفهم اللحظات الأولى من نشوء كواكبنا.