كلُّ حدثٍ تاريخي، مهما بلغ اثرُه، لا يمكنُ أن يكونَ بذاتِه بدايةً للتاريخ.
وبالتالي، فهو لا يُشَكِّلُ وَحدَهُ أساساً لتبيانِ المسارِ التاريخيِّ للأحداث.
وُضِعَ مخططُ "الشرق الأوسط الجديد"عام١٩٩٣، لِإعادة صياغةِ الخارطةِ السياسيةِ للمنطقةِ العربية-الاسلامية. كصيغةٍ بديلةٍ عمّا رسمتْهُ اتفاقيةُ "سايكس- بيكو"،ورسمت كياناتِها السياسيةَ بما تقتضيهِ مصالحُ قوى الاستعمار، وتقاسُمُها للنفوذِ فيها، بين بريطانيا وفرنسا اللَّتَيْن ِ ورِثَتِ الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ نفوذَيْهِما وحَوَّلَتْهُما إلى وكلاءَ لها.
و فرَضَتِ المصالحُ الأميرِكيّة بأنْ تُعِيدَ أميرِكا صياغةَ المنطقة، بما يتلائمُ مع مقتضياتِ مصالِحِها، فكانتِ السيطرةُ المباشَرةُ على المواردِ الطبيعيةِ والمعابرِ البرّيَّةِ والبحريّة، والمواقعِ الدولية، لِضمانِ القُدْرَةِ على التَّحَكُّمِ بِها، باعتمادِ وكيلٍ أوّلَ لها في المنطقة، مِنْ خارجِ نسيج هذه المنطقة الاجتماعِيِّ التّاريخِيّ، والمُتمثلِ بالكيانِ الصهيونيّ الاستعماريِّ، والاستيطاني في فلسطين.
واستندت في ذلك، إلى مَحطاتٍ مُركّبةٍ ومُعقَّدةٍ بدأت أبرزُها بمؤتمرِ مدريدَ "لِلسّلامِ في الشرقِ الاوسط". وانخرَطَتْ فيه أنظمةٌ تشكَّلَتْ على أساسِ "سايكس- بيكو"، والتحقتْ به ما كان يُعْرَفُ بحركاتِ التحرُّرِ الوطنيّ، وفي مقدمَتِها "منظمةُ التحريرِ الفلسطينية".
هذا بغضِّ النظر عن آلِيّاتِ الِاحْتِواءِ والاستقطابِ التي رافقت "عمليةَ السلام"والتي هدفتْ إلى تفكيكِ الوحدةِ الشكليةِ بين المكوِّناتِ العربيةِ، من دُوَيْلاتِ الحركةِ السياسيةِ، العربيةِ والاسلاميةِ ومنظماتِها وأحزابِها .
وعلى خطٍّ آخرَ، نشأ مسارٌ مختلفٌ للتحرُّرِ الوطنيِّ والقوميِّ، خارجَ الأُطُرِ والمفاهيمِ التي سادتْ ما بعدَ الحربِ العالميةِ الثانية، واحتكمتْ إليها حركاتُ التحرُّرِ: الوطنيةِ، القوميةِ، واليسارية.
وتمثلَ الخطُّ الجديدُ بالثورةِ الإسلاميّةِ في إيران التي أسقطتْ نظامَ التبعيةِ لِأَميرِكا والغرب، (نظامِ الشاه) والذي كان يوصف ب"شرطي الخليج"، والمتحالفِ، بتقاسمِ الأدوارِ، مع الكيان الصهيوني، وأُقيمتْ على انقاضِهِ "الجمهوريةُ الاسلاميةُ" التي صمدتْ بِوَجْهِ كُلِّ مُحاولاتِ تقويضِها مِنَ الداخل، أو إخضاعِها من الخارج بإشعالِ الحربِ الظّالِمةِ عليها، من قِبَلِ النظامِ العراقِيِّ البائدِ المُتعاونِ معَ الأميركيين الصهاينة، ومِنْ خَلْفِهِ المحمياتُ الأميركيّةُ دُوَيلاتُ الخليجِ تدعمُهم أميرِكا والغرب، إذ صمدتْ بِوَجْهِهم في حربٍ استمرتْ ثمانِي سنوات.
شكَّلَ صمودُ الثورةِ الإيرانيةِ وعقيدةُ الإيرانيين، قناعةً لدى أميركا والغرب، أَنَّهُ لا يُمكِنُ الرهانُ والاعتمادُ على مُكَوِّنٍ اجتماعِيٍّ تاريخيّ يملكُ القوةَ والقدرةَ على رفض الهيمنة، فكان تركيزُهم على الِاعتمادِ على "إسرائيلَ" الكِيانِ الصهيونيِّ المُجرِمِ المُحتلِّ دولةً عربيّة، وعمِلوا على تقوِيَتِه، كما عملوا بالمقابلِ على تفكيكِ الكيانات التي أفرزتها سايكس - بيكو، وإضعافِها.
وتحوَّلَ النموذجُ الإيرانِيُّ في الثورةِ والتحرُّرِ الوطنيِّ-القومِيّ. إلى أُنموذَجٍ مُلْهِمٍ لِقِوى التَّحَرُّرِ الوطنيّ في المنطقة أعادَ الصراعَ الى جوهرِهِ وطبِيعَتِه، باعتبارِهِ صراعَ تحرُّرٍ وطنيٍّ- قوميّاً، وليس قضيةَ استقلالٍ شكليٍّ لِكياناتٍ أفرزَتْها " سايكس - بيكو "، وإصلاحِها وتطويرِها، من ضمن منظومةِ مفاهيمٍ ديمقراطيةٍ ليبراليةٍ مشوهةٍ وبعيدةٍ عنَ مُقاربةِ الهيمنةِ والخضوعِ للاستعمارِ الحديث.
وانقسمت الحركةُ السياسيةُ العربية, بين الاتجاهِ الموروثِ بتاثيرِ الفكرِ السياسيِّ الأوروبيّ، والاتجاه المتأثِّرِ بالنموذجِ الوليدِ تحت شعار: "لا شرقية ولا غربية، جمهورية اسلامية" على أهميةِ هذا الشعارِ التحررية، الا انه حمل إشكاليةً تجاوزتِ الواقعَ في البُعْدِ العقائديّ المنقسمِ أصلاً حبين طوائفَ ومذاهب، ماجعلَ البعضَ يُفَسِّرُهُ، على أنَّهُ عنوانٌ طائفيٌّ، بوجهِ طائفةٍ أكبرَ وأعظم.
وتَمَّ مِنْ خِلالِ تجسيداتِ هذا الشعارِ التحرُّرِيّ، إبرازُ قضيةِ التحرُّرِ مِنَ الهَيْمَنَةِ الِاستعمارية. مقرونةً بعنوانِ : "الوحدةِ الاسلامية".
ثُمَّ تَطَوَّرَ إلى أبعادٍ جديدةٍ تشملُ كُلَّ قوى التَّحرُّرِ في العالم، على اختلافِ قومياتِها ومعتقداتِها ودياناتِها ومذاهبها.
هذا ما أتاح نُمُوَّ حركاتِ المقاومةِ المتأثِّرةِ بالنموذجِ الإيرانيّ وتَطَوُّرَها، وضَعُفَ واضْمَحَلَّ دورُ الحركاتِ القوميةِ واليساريةِ، وانقلبَ بعضُها، من مقاومةِ الهيمنةِ، إلى العملِ في خِدمَتِها وخدمةِ أدواتِها في المنطقة، بما فيها الكيانُ الصِّهيونِيُّ المُحتَلُّ فلسطين، وباتتْ تَتبنَّى مُقارباتِ ورُؤى قوى الهيمنةِ، وتتحدَّثُ عن مشروعِ تَوَسُّعٍ أمبراطويٍّ إيرانيٍّ مُفْترَضً روّجت لهُ قوى الهيمنة، فيما تجاهلتِ الهيمنةَ المباشَرةَ الأمريصهيوغربيّة الملموسة، وراحت تصفُ قوى المقاومةِ والتحرُّرِ بِ "الأذْرُعِ الإيرانية"، وتتماهى مع طواغيتِ الهيمَنةِ والأدواتِ التابعةِ لها، سواءٌ في الكياناتِ ك"السعوديةِ" وممالك الخليج، أو الأدواتِ ذاتِ الطابعِ الشّعبِيّ، مثل "الإخوان المسلمين" والحركاتِ الِانعزاليةِ من مختلفِ المكوِّناتِ الِاجتماعيةِ التي تطوَّرَتْ بِاتِّجاهَيْنِ مُتَوازِيَيْنِ: اتجاهِ التّصَهْيُنِ السّافر، واتجاهِ الإرهابِ التّكفيريّ، ولو بِصِيَغٍ موارِبة. وجميعُها مُتوحّدةٌ على هدفِ شَيطنةِ قوى المقاومة التحررُّيةِ وعَزلِها.
وأهمُ تجسيداتِ هذا الدورِ تَمَثَّلَ بالثوراتِ المُلَوَّنة، وما سُمِّيَ بِ "الربيع العربي".
- شكل مسارُ تحقيقِ مشروعِ "الشرق الأوسطِ الجديد" عدةَ خطوطٍ متوازية، ومن مستوياتٍ وطبقاتٍ متعدِّدة، بأدواتِهِ من سلطاتٍ وُضِعَتْ تحتَ ضَغْطِ عناوينَ زائفةٍ، مثلِ الإصلاح، ومحاربةِ الفساد، والشفافيةِ، وترشيدِ الحُكم، بُغْيَةَ إضغافِ السلطاتِ المركزيةِ وتحطيمِ الجيوشِ الوطنية،وتصفيةِ القضيةِ الفلسطينية، عَبْرَ إنكارِ وُجودِها كقضيةِ تحرُّر وطنيّ،
وتشويهِ وشيطنةِ الرموزِ الوطنيةِ التحررية، ومنها المقاومةُ الإسلاميّة اللُّبْنانيّة، تحت عنوانِ عدمِ تقديسها.
وكان خطُّ عَزْلِ قِوى التحررِ وضَرْبِها، من خلالِ الحربِ المباشرةِ في غزةَ، لبنان واليمن، بتواريخَ مختلفة، حيثُ شَكَّلَ الخيارُ العسكريُّ تجاهَها خياراً وحيداً، بعد الفشلِ في احتوائِها والتَّحَكُّمِ بِمساراتها.
وجاء السابعُ من تشرينَ الثاني (اكتوبر) ٢٠٢٣، بعد انتفاضةِ الأقصى، وعمليةِ"سيف القدس"، وما تلا ذلِكَ من حربِ الإسنادِ من لبنانَ والعراقِ واليمن، جاءَ لِيُشَكِّلَ ردّاً على مُخَطَّطاتِ التصفيةِ لِلْقَضِيَّةِ الفلسطينية، فعَطَّلَ، من جهةٍ، بناءَ أدواتِ السيطرةِ الجديدةَ على المنطقة، وفي مقدمتِها مشروعُ "الناتو العربي"،و"التحالف الابراهيميّ"، ومن جهةٍ أُخرى، فرضَ التّسْرِيعَ في عمليةِ تَنفيذِ مُخَطَّطِ "الشرقِ الأوسطِ الجديد"، عَبْر َالتَّدَخُّلِ الأميرِكيّ الغربِيِّ المباشَرِ لِتَحْطِيمِ الكِياناتِ التي تَحتَوِي قِوىً مُنَظَّمَةً وفاعِلةً للمقاومة وتفتِيتِها، وقَطْعِ سُبُلِ التَّواصُلِ فيما بينها، وأبْرَزُها إسقاطُ سُورِيَّة.
الحاصلُ، حتى الآن، هو أنَّهُ تَمَّ تحطيمُ خارطةِ سايكس-بيكو، خصوصاً في الكياناتِ التي تَنْشَطُ فيها قِوى المقاومةِ والتحرُّر؛ لكنَّ المُقاومةَ لا تزالُ صامِدةً وتُقاوِمُ، بِكُلِّ ثِقَةٍ بالنّصر، ما فرضَ مَرحلةً لها أدواتُها وأسالِيبُها المختلفة.
الحربُ لم تنتهِ بعدُ، في حين أنَّ قوى الهيمنةِ استخدمتْ أقصى ما يُمكنُ أن تستخدِمَهُ من قوةِ التدميرِ والإبادة، ما دونَ أسلحةِ الدمارِ الشاملِ الشيطانية(النوويةِ والبيولوجية)، وإنْ كانَ الِاستِعمارُ الأمريصهيوغربي قد استخدمَ بعضَها تكتيكيا،وضِمْنَ أهدافٍ نوعِيَّةٍ مُحَدَّدَة.
إنَّ محاولاتِ الايحاءِ بالسيرِ قُدُماً في تحقيق بعض عناوين "الشرق الأوسط الجديد "، لِجِهةِ "التحالفِ الابراهيميّ" وعنوان "الازدهار"الوهمي للمنطقة، إنّما هو عنوانٌ يُعَبِّرُ عن وَهنٍ، ويُثبِتُ فشلَ الحملةِ العسكرية، رغمَ ما أَحْدَثَتْهُ من مجازِرَ ودمار.
إنَّ قوى هذا التحالفِ الْوَهْمِيِّ مُفكَّكةٌ: كُلٌّ مِنها يسعى لِتَأمينِ نفسِه، سواءٌ عَبْرَ إعادةِ صِياغةِ علاقاتِهِ الإقليميةِ والدولية، مثلَ تركيا ومصر،وحتّى السعودية، أو عَبْرَ التَّوَسُّعِ والمناطقِ العازلةِ المُحيطةِ بِهِ،مِثْلَ الْكِيانِ الغاصبِ الصهيوني.
وهذا الأخيرُ، هو في الواقِعِ يفتحُ بابَ استمرارِ الحرْبِ والصِّراعِ، بما يَتناقضُ كُلِّيّاً معَ حديثِ الأميريكيِّ المُنافقِ عنِ التحالُفِ والسلامِ والِازْدِهار، بِهدَفِ خِداعِ الشُّعوب، لِلِاسْتِمْرارِ في نهبِ ثرواتِها.
والمُقاومةُ والشُّعوبُ المُستضعَفةُ المنهوبةُ، وكُلُّ الأحرارِ في العالَمِ معها، ثابِتون سَدّاً منيعاً يستحيلُ اختِراقُهُ، حتى يقضِيَ اللهُ أمراً كان مفعولا.