* مسبقا استشرف نجيب عازوري (١٨٧٣-١٩١٦ ) مطامح الحركة الصهيونية في فلسطين واثرها على السلام العالمي باسره،مركزا على الجانب القومي الوجودي في الصراع العربي الصهيوني.قال عازوري في مقدمة كتابه(( يقظة الامة العربية في الاقاليم الاسيوية )) الصادر باللغة الفرنسية في باريس في العام ١٩٠٥ وبما يشبه النبوءة الى ما سيؤول اليه الصراع مع الصهيونية،وقبل وعد بلفور باثنتي عشرة سنة،وقبل قيام دولة اسرائيل بما يقرب من نصف قرن: (( ان ظاهرتين مهمتين متشابهتي الطبيعة،بيد انهما متعارضتان،لم تجذبا انتباه احد حتى الان،تتضحان في هذه الاونة في تركيا الاسيوية،اعني :يقظة الامة العربية وجهد اليهود الخفي لاعادة تكوين مملكة اسرائيل القديمة على نطاق واسع.ان مال هاتين الحركتين ان تتصارعا باستمرار حتى تنتصر احداهما على الاخرى،وعلى النتيجة النهائية لهذا الصراع يتوقف مصير العالم اجمع )).واردف عازوري بان الذين عالجوا المسألة اليهودية لم يأخذوا في الاعتبار بما فيه الكفاية ما ينتج عنها من تهديد للسلم العالمي،وانه قصد ملء هذه الفجوة كي يكشف للعالم اهمية الحركة العربية،والخطر الذي تتعرض له،وهو خطر يتعاظم الخوف منه لانه يهيأ في الظل وفي السر.
ان العرب هم، كما يتضح من خلال(( يقظة الامة العربية )) ازاء مواجهة تاريخية مزدوجة:من جهة مواجهة الاحتلال التركي الذي منع الامة العربية من التقدم والعطاء،ومن جهة اخرى مواجهة الخطر الصهيوني الداهم الذي يضع القومية العربية ومصير العرب على المحك.
في هذا الاطار عمل عازوري على فضح نيات الصهاينة ومخططاتهم،فحذر مما يضمره هؤلاء من مشاريع للسيطرة على فلسطين التي يريدون اعادة بنائها اكثر اتساعا من الذي امتلكوه في مختلف مراحل وجودهم التاريخي.انهم لم يستطيعوا عبر تاريخهم احتلال الحدود الطبيعية للبلاد كي يصدوا الغزاة والفاتحين، ولم يتمكنوا من استبعاد مختلف الامم التي كانت تقطن فلسطين او استيعابها والعيش معها بسلام؛وقد كان هؤلاء على قدم المساواة مع اليهود في الحضارة،وكل واحد من هذه الشعوب اخضعهم بدوره الى سيطرته.ولو تمكن اليهود من احتواء كل الاقوام الكنعانية لكانوا اوجدوا مملكة مستقلة ولمنعوا بزوغ فجر المسيحية: الا ان يهود عصرنا ادركوا اخطاء اجدادهم،لذلك يسعون الى احتلال التخوم الطبيعية للبلاد التي هي بالنسبة اليهم جبل حرمون ووادي الليطاني في الشمال،فضلا عن المنطقة الواقعة بين راشيا وصيدا، وقناة السويس وشبه جزيرة سيناء في الجنوب،والصحراء العربية في الشرق،والبحر المتوسط في الغرب.ان اسرائيل اذ ذاك تغدو قلعة حصينة في وجه اعدائها.
ازاء هذه المخططات التي يعمل لها اليهود بدأب واتحاد وتصميم،تقبع الادارة التركية المتخلفة،فيما العرب يعانون الشقاق والجهل والبؤس وعدم الانتظام،وبينما الدول الاوروبية غافلة عن خطط اليهود وغزوهم لفلسطين.
على هذه الخلفية تطلع عازوري الى اقامة امبراطورية عربية تمتد من الفرات ودجلة الى خليج السويس،ومن المتوسط حتى بحر عمان.كما تطلع الى حكومة عربية تتخذ شكل السلطنة الدستورية المرتكزة على الحرية لكل المذاهب،والفصل بين السلطتين المدنية والدينية.ان امبراطورية عربية كهذه ستكون قادرة على مجابهة الصهيونية وافشال مخططاتها في المنطقة.
من الطبيعي ان لا يلقى كتاب عازوري الصدى الذي يستحقه في الحركة القومية العربية،فالكتاب نشر في باريس ولغته فرنسية،لكنه اثار اهتماما في الاوساط الصهيونية،حتى ان بن غوريون وصفه في مذكراته بانه عمل فردي وجزء من الدعاية المضادة لليهود في فلسطين.
فضلا عن كتاب (( يقظة الامة العربية ))، يذكر عازوري انه وضع كتابا بعنوان (( الخطر الصهيوني العالمي ))، الا انه لم يعثر على هذا الكتاب،اما لانه لم ينشر او لان الصهيونية العالمية قامت بسحبه واتلافه كغيره من الكتب المعادية للصهيونية.
من نبوءة نجيب الى التطبيق المجتمعي
--------------------------------
* تاسس حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية على يد ميشيل عفلق وصلاح البيطار وزكي الارسوزي،تبنى الحزب مفهوم البعثية ( ويعني "النهضة" او " الصحوة" ) وهي خليط ايديولوجي من القومية العربية والاشتراكية العربية ومعاداة الامبريالية.تدعو ا البعثية الى توحيد الوطن العربي في دولة واحدة.شعاره (( وحدة،حرية،اشتراكية ))،يرمز الى الوحدة العربية والتحرر من السيطرة والتدخل غير العربي.تاسس الحزب بدمج حركة البعث العربي بقيادة ميشيل عفلق وصلاح البيطار،والبعث العربي بقيادة الارسوزي بتاريخ ٧ ابريل ١٩٤٧ تحت مسمى حزب البعث العربي.سرعان ما انشأ الحزب فروعا له في الدول العربية الاخرى.لكنه لم يصل الى السلطة سوى في العراق وسورية.اندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي الذي يقوده اكرم الحوراني في عام ١٩٥٢ ليشكل حزب البعث العربي الاشتراكي.سرعان ما نشب الخلاف على السلطة بين الفصيل المدني بقيادة عفلق والبيطار ومنيف الرزاز واللجنة العسكرية بقيادة صلاح جديد وحافظ الاسد،مع تدهور العلاقات بين الفصيلين،نظمت اللجنة العسكرية انقلاب عام ١٩٦٦ الذي اطاح بالقيادة الوطنية بقيادة الرزاز وعفلق وانصارهم،قسم انقلاب عام ١٩٦٦ حزب البعث بين حزب البعث ( الفصيل العراقي ) وحزب البعث ( الفصيل السوري ).
* الرئيس المصري جمال عبد الناصر قاد مع مجموعة من الضباط الاحرار انقلاب تموز/يوليو ١٩٥٢ واصبح رئيسا لجمهورية مصر العربية،كان رمزا للقومية العربية،حيث قاد حركة الوحدوية عبر تاسيس الجمهورية العربية المتحدة مع سورية وامم قناة السويس،ودعم حركات التحرر في المنطقة،محققا " الكرامة والعزة" للامة العربية مع تبني الفكر الاشتراكي داخليا ورفض التبعية للقوى الاستعمارية،مما جعله ايقونة قومية رغم تحديات اخفاقات الوحدة.لقد وجد عبد الناصر نفسه امام قوى رهيبة تناصبه العداء وتسعى الى القضاء عليه،وفي مقدمتها الصهيونية العالمية بقضها وقضيضها والاستعمار الغربي والرجعية العربية.لم يطور عبد الناصر حركته القومية الى حزب ايديولوجي،وبقي حركة تدعوا الى الوحدة في اطار القومية العربية .وانتهت باستشهاد مؤسسها وقائدها جمال عبد الناصر
لكن حزب البعث العربي الاشتراكي تبنى رؤيا الانتليجنسيا وحولها الى الفعل الحزبي المجتمعي.نطرح السؤال لماذا فشل حزب البعث في تطبيق شعاراته لتحقيق الحرية والوحدة القومية والاشتراكية؟؟
للاجابة على ذلك نعود الى تحديد وتعريف هذه الحركات والاحزاب على انها مجرد افكار وشعارات تجريدية عامة،كاي تنظيمات تجريدية يلتقي عليها او تحتها اكثر الناس اختلافا في فهم مضمونها العيني وكيف يتجسد الواقع.ويبدأون زحاما ملتقين على غايات مجردة او تحت شعارات عامةثم اذا بكل منهم يحاول ان يجسدها في الممارسة على الوجه الذي فهمها منذ البداية.فان اختلفوا وارادوا الرجوع الى افكارهم او شعاراتهم يحتكمون اليها ايهم اصدق فهما خذلتهم الافكار المجردة ولم تستطع الشعارات العامة ان تحكم فيما بينهم لانها من حيث هي عامة ومجردة تكون قابلة في الممارسة لتاويلات مختلفة.فيختلفون ويفترقون يتهم كل واحد منهم رفاق الامس في مدرسته الفكرية بانه قد ارتد عن منطلقاته او خان التزامه والواقع ان احدا لم يرتد ولم يخن وانما التقوا جميعا على مقولات فكرية مجردة حولوا رموزها الىشعارات عامة بدون الانتباه الى انها على هذا الوجه المجرد العام،او بسبب هذا التجريد العام،فاشلة منذ البداية في ان تحفظ وحدتهم حتى لو كانت افكارا صحيحة تحولت الى شعارات مناسبة.
* ان الحرية- مثلا- غاية غير منكورة للتطور الاجتماعي في كل المجتمعات.وهي شعار ترفعه كل القوى حتى التي تستهدف غايات متناقضة ويدعيها كل واحد غاية له حتى ولو كان مستبدا.وهي بهذا التجريد وحده،بصلاحيتها ان تكون شعارا لغايات قوى متناقضةفي كل المجتمعات لا تصلح موضوعا لالتزام قوى مفرزة بتحقيق غاية محددة في مجتمع معين.وعندما يرتفع هتاف (( تحيا الحرية )) لا يدخر احد طاقته ليكون صوته اعلى الاصوات.وهذا يعني ان الهتاف للحرية،بالرغم من دلالته الصحية والصحيحة،لا يتضمن اي التزام بتحقيق الحرية. لا لان الهاتفين لا يريدون الحرية ولكن لان الحرية كغاية مجردة،وان كانت صحيحة،لا موضوعا للالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف.
* ليس الامر اقل وضوحا بالنسبة الى (( الوحدة )) كغاية بل انه اوضح.ذلك لان الوحدة السياسية ليست غاية تقدمية للجهد الانساني في كل المجتمعات ولا حتى في كل الامم،بل هي غاية مقصورة على المجتمعات القومية المجزأة كالامة العربية والامة الكورية وبينما يكافح التقدميون في تلك المجتمعات الممزقة لحل مشكلة التجزئة بتحقيق وحدتهم القومية.عندما تتحقق الوحدة السياسية للامة العربية تنقضي كغاية.ولكنها الى ان تتحقق،تقدم دليلا على عقم التجريد الفكري الذي يتجاهل التجزئة مهما تشدق بالكلمات الكبيرة عن التطور والتقدم والحرية والاشتراكية...الخ.اذ ان نظرية تزعم انها تخدم قوى التقدم والحرية والاشتراكية ثم تجهل او تتجاهل مشكلة التجزئة تكون بالنسبة الى قوى التطور والتقدم في تلك المجتمعات تجريدا فكريا معلقا فوق الواقع وبعيدا عن الحياة فيه ولو كانت صحيحة في مستواها المجرد.صحيحة بالنسبة الى الامم عامة ولكنها غير صحيحة بالنسبة الى الامم الممزقة ان صلحت لالتقاء متعددين في مدرسة فكرية فانها لا تصلح ان تكون محلا للالتزام بها في الممارسة والاحتكام اليها عند الاختلاف فيفترق الذين التقوا عليها فكريا عندما يواجهون مشكلات التجزئة في ساحات الممارسة وعلى مدى زمانها.من هنا لا تكون الوحدة السياسية غاية الا منسوبة الى مجتمع معين
* واخيرا يقول الاشتراكيون،كل الاشتراكيين،ان الاشتراكية هي (( الغاء استغلال الانسان لاخيه الانسان )) وهو قول صحيح تماما على مستواه الانساني المجرد.غير ان هذه صيغة بدون مضمون عيني ما دامت مجردة.وحولها قد يلتقي ملايين الناس الذين يريدون- فيما يعلنون - الغاء استغلال الانسان لاخيه الانسان،ويكون في مواجهته زحام من (( الاشتراكيين )) ما دامت الاشتراكية بهذا المفهوم المجرد لا تلزم ايا منهم بان يؤدي في واقعه الاجتماعي عملا معينا.فيختلفون في التطبيق لان كلا منهم يفهم الاشتراكية التي هي الغاء استغلال الانسان لاخيه الانسان على ما يريد ويحاول ان يجسدها في الممارسة طبقا لفهمه.
* ان فشل التجربة الناصرية.وتجربة حزب البعث العربي لا تعزى الى كونهما تجريديتين فقط،بل هناك من ساهم في مفاقمة وتعجيل الفشل.لقد بات معروفا ان الرئيس جمال عبد الناصر مات مسموما بعد ان قام انور السادات شخصيا باعداد القهوة له.اما حزب البعث العربي الذي عصفت به الخلافات الدموية،وتصفية القيادات السياسية التي فتحت الباب على مصراعيه للتدخل البريطاني وتحويل الحزب الى حزب العائلة الحاكمة والفرد المستبد،فحكم حافظ الاسد سورية حتى الممات. واورث الحكم لابنه بشار حتى سقطت سورية بيد جبهة تحرير الشام.وحكم صدام حسين العراق منذ انقلابه على الرئيس احمد حسن البكر حتى اعدامه بعد الاحتلال الامريكي للعراق وقيام الحكم الطائفي فيه وطيلة تلك الحقبة لم يكن بين العراق.وسورية الا ما صنع الحداد البريطاني.تم احباط كل الامال التي قامت على الشعارات والافكار التجريدية في التحرر والوحدة والاشتراكية.في احد المنتديات الثقافية التي كنت اشارك فيها في الكويت قال لي الكاتب والاديب الدكتور طالب الرفاعي : (( كنت في ذلك الوقت احلم في ان اقود سيارتي من الكويت الى العراق والاردن وسورية وصولا الى لبنان بدون جواز سفر )).
* التجزئة والطائفية :بعد مرور اكثر من قرن على نبوءة نجيب العازوري واتفاقية سايكس- بيكو ،تحولت الكيانات القطرية المستجدة الى قوميات متجذرة وثابتة وخاصة بعد ان طرحت انظمتها شعار ال...اولا والامثلة على بروز هذه القوميات القومية الاردنية اثناء المواجهة مع الفلسطينيين عام ١٩٧٠ والغزو العراقي للكويت عام ١٩٩٠.لقد صفق الراي العام العربي مدفوعا بقوة اسطورة الوحدة لهذا الاجتياح وردد شعار(( بالكيماوي يا صدام )) لكن المفاجئة جاءت من داخل الكويت نفسها.كنت في طابور طويل امام مخبز الشعب الالي في منطقة الشعب قبل الغروب وصعد الكويتييون على اسطح المنازل رجالا ونساءا واطفال يرددون(( الله اكبر الله اكبر، تحيا الكويت ويحيا اميرنا جابر )).فبالرغم من حداثة الدولة المستقلة في الكويت عام ١٩٦١ الا انها طورت خلال ثلاثين عاما مجتمعا محليا حقيقيا استعصى معه على صدام حسين ان يجد متعاونا كويتيا واحدا لاقامة حكومة وهمية. وتطورت بفعل الاجتياح نزعة قومية كويتية حقيقية لكنها لم تتنكر لقوميتها العربية،وظلت امينة على ذلك من خلال موقف الدولة الرسمي المتمثل ب(( سنكون اخر المطبعين )) ومن خلال الموقف الشعبي المساند لنضال الشعب الفلسطيني.
فما بالك بالدول العربية الكبيرة والتاريخية مثل مصر والعراق وسورية والجزاىر.....الخ التي لا تقبل بالغاء حدودها القومية المتجذرة.
نظرا للفراغ السياسي في الوطن العربي الذي تحول في الالفية الثالثة الى الرجل المريض،وتم وضعه على منضدة التشريح ( على غرار الامبراطورية العثمانية ) على اساس (( تقسيم المقسم وتجزىة المجزأ )) نظرية الصهيوني برنارد لويس والتي عمل على تنفيذها الفيلسوف الصهيوني برنارد هنري ليفي الذي بدأ مشروعه في ليبيا مع الرئيس الفرنسي ساركوزي.وبالقاء نظرة على خارطة الوطن العربي نشاهد ان العراق تحول الى ثلاث كيانات طائفية وعرقية،وصار اليمن يمنان،والسودان سودانات وسورية عدة كيانات طاىفية ودولة جبهة تحرير الشام لا تسيطر على اكثر من ثلاثين بالمئة من الجغرافيا السورية،وتحتل اسرائيل ثلاث محافظات وتحتل جبل الشيخ( حرمون ) والقوات الاسرائيلية على ابواب دمشق وتحتل جنوب الليطاني .
* قرن من الزمان واكثر مر على نبوءة نجيب العازوري الذي استشرف وحذر مما هو حاصل الان.رحمة الله عليك يا نجيب .والله لو عرفت اي قبر يضم رفاتك،لجئت اليه ووقفت وقفة اجلال امامه وقرأت على روحك الفاتحة ،وكتبت على قبرك
يا زائري لا تنسني مر دعوة لي صالحة
وارفع يديك الى السماء وأقرا لروحي الفاتحة
ولاخبرتك قبل الرجوع انه ما زال هناك ثقافة مقاومة ومقاومين وكلنا امل الا يقعوا في شراك الشعارات والافكار التجريدية،لاننا في زمن ما عدنا نحتمل فيه اعادة تجريب المجرب.
مهندس زياد ابو الرجا،