لا يأتي اللقاء المرتقب بين بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب كحدث سياسي عابر، بل كاجتماع مثقل بأسئلة كبرى تتجاوز غزة ووقف إطلاق النار، لتلامس جوهر الصراع على شكل الشرق الأوسط المقبل. إنه لقاء بين رجلين يلتقيان على المصالح، لكنهما يختلفان في حسابات المخاطر وحدود المغامرة.
من زاوية ترامب، تمثل غزة عبئا سياسيا واستراتيجيا ينبغي احتواؤه سريعا، فواشنطن في لحظة دولية شديدة الحساسية، لا تريد حربا مفتوحة تستدرجها إلى استنزاف جديد، بل تسعى إلى تهدئة محسوبة تتيح لها إعادة ضبط الإقليم، ومنع توسع المواجهة مع إيران، والحفاظ على استقرار نسبي يسمح لها بالتركيز على أولوياتها الكبرى. لذلك، يضغط ترامب باتجاه تثبيت وقف إطلاق النار، والانتقال إلى ترتيبات أمنية وإدارية جديدة في غزة، ولو كانت هشة ومؤقتة، مع إبقاء قدرة الولايات المتحدة على إدارة التوازنات الإقليمية من موقع الممسك بالخيوط.
لكن نتنياهو يدخل اللقاء من موقع مختلف. فهو محاصر داخليًا بأزماته القضائية وبابتزاز اليمين المتطرف في حكومته، ويعلم أن أي تنازل حقيقي في غزة قد يُترجم داخليًا كهزيمة سياسية. لذلك، يحاول تحويل التهدئة إلى مسار أمني مفتوح، مليء بالشروط والضمانات، يتيح له كسب الوقت، وإبقاء يده طليقة، دون دفع ثمن سياسي مباشر، مع تسويق أي توقف مؤقت للقتال كجزء من معركة أطول لم تُحسم بعد.
غير أن غزة ليست سوى بوابة مشروع أوسع يحمله نتنياهو إلى ترامب. الرجل يسعى إلى استثمار لحظة السيولة الإقليمية لإعادة رسم الشرق الأوسط بالقوة. في حساباته، المنطقة تعيش حالة تفكك نادرة سوريا منهكة ومفتوحة على كل أشكال التدخل، لبنان مأزوم سياسيا واقتصاديا، إيران تحت ضغط متصاعد، وتركيا وقطر في تمدد إقليمي تعتبره تل أبيب تهديدًا مباشرًا لأمنها الاستراتيجي. ومن هنا، يرى نتنياهو أن الوقت مناسب للحسم لا للاحتواء.
وفي عمق هذه الرؤية، يبرز هدف أيديولوجي وسياسي مركزي يتمثل في سحق تيار الإخوان المسلمين بوصفه الإطار الجامع لكل أشكال الإسلام السياسي المناهضة لإسرائيل ولمشروع الهيمنة في المنطقة. من غزة إلى سوريا، ومن تركيا إلى قطر، يسعى نتنياهو إلى تفكيك هذا التيار، وتجفيف بيئته السياسية والاجتماعية، باعتباره العقبة الأبرز أمام فرض شرق أوسط جديد خالٍ من القوى العقائدية العابرة للحدود.
في هذا السياق، لا تنفصل الحرب على غزة عن مشروع أشمل يهدف إلى إعادة تشكيل الوعي السياسي والثقافي في المنطقة، وفتح الطريق أمام تطبيع واسع النطاق لا يقتصر على اتفاقات سياسية، بل يقوم على فرض الإبراهيمية كإطار ديني–ثقافي بديل، يُستخدم لتجاوز الصراع التاريخي مع إسرائيل، وتفكيك البنى العقدية الرافضة للتطبيع، وتحويل إسرائيل من كيان صراعي إلى شريك “طبيعي” في منظومة إقليمية جديدة.
في قلب هذا المشروع، تبرز سوريا كنقطة ارتكاز أساسية. فنتنياهو يدفع باتجاه تكريس واقع لا مركزي أو تقسيمي يمنع قيام دولة قوية، ويحد من النفوذ التركي والقطري، ويُبقي الساحة السورية مفتوحة أمام الضربات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه يسعى إلى قطع خطوط الإمداد الإيرانية، وضرب الأذرع الإقليمية لطهران، وعلى رأسها حزب الله، باعتباره حجر الزاوية في معادلة الردع التي ما زالت تقيد التفوق الإسرائيلي.
ولا يقل الملف الكردي أهمية في الحسابات الإسرائيلية. فاستثمار الطموحات الكردية في سوريا والعراق يشكّل أداة ضغط استراتيجية على كل من تركيا وإيران، ويساهم في تعميق التشققات داخل الدول المركزية، وإعادة إنتاج خرائط نفوذ مرنة تخدم المصالح الإسرائيلية. كما يتيح هذا الملف لتل أبيب لعب دور غير مباشر في إعادة تشكيل الإقليم، عبر إدارة الصراعات والهويات، لا عبر خوض الحروب المباشرة.
في هذا الإطار، يحاول نتنياهو إغراء ترامب بدور “البطل”رئيس أميركي يعيد تثبيت الهيمنة، ويسحق الإسلام السياسي، ويكسر المحاور المنافسة، ويقود إعادة هندسة الشرق الأوسط من بوابة غزة وسوريا ولبنان. لكن هذا العرض يضع ترامب أمام معادلة شديدة الخطورة، إذ إن الدخول في مواجهة شاملة مع إيران وحزب الله، أو الصدام مع تركيا وقطر، قد يشعل المنطقة من المتوسط إلى الخليج، ويقود إلى انفجار يتجاوز القدرة الأميركية على السيطرة أو الاحتواء.
بين طموح نتنياهو للحسم الشامل، وحذر ترامب من الانزلاق إلى حرب مفتوحة، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق حاسم إما تهدئة مؤقتة تُخفي صراعًا مؤجلًا، أو اندفاع محسوب نحو إعادة رسم المنطقة بالقوة، بثمن قد يتجاوز قدرة الجميع على تحمّله، ويؤسس لفوضى طويلة الأمد بدل سلام مستقر.