يتبدّى في المشهد السياسي اللبناني أنّ مقاربة مسار التطبيع مع إسرائيل ليست مسألة “مبدأ” أو خيار أخلاقي متنازع عليه، بقدر ما هي خلاف تقني – سياسي حول الإيقاع، والأسلوب، وتوقيت الإعلان، وتقدير الأكلاف الداخلية. فالخلاف الظاهر بين جوزيف عون ونواف سلام وسمير جعجع لا يرقى إلى مستوى التعارض في الجوهر، بل يندرج في إطار تنوّع الأدوات والخطابات لتحقيق هدف واحد مشترك.
هذا الهدف، في جوهره العميق، يتجاوز مسألة التطبيع بحد ذاتها ليطال إعادة صياغة وظيفة لبنان الإقليمية، وإعادة تعريف مفهوم السيادة، وصولاً إلى إنهاء كل أشكال المقاومة، العسكرية والسياسية والثقافية، بوصفها عقبة بنيوية أمام إدماج لبنان الكامل في المنظومة الأميركية – السعودية الجديدة في المنطقة.
يقدّم جوزيف عون نموذجاً لما يمكن تسميته “التطبيع الهادئ المُدار”، حيث لا يتعامل مع الملف بوصفه قراراً سيادياً معلناً، بل كمسار تفكيكي طويل النفس، يقوم على استنزاف عناصر الرفض تدريجياً، وتفريغ بيئة المقاومة من شرعيتها السياسية والاجتماعية قبل الوصول إلى لحظة الإعلان.
عون لا يرفض التطبيع، بل يخشى كلفته الفجائية. هاجسه ليس المبدأ، بل الاستقرار الشكلي لعهدٍ يريد له أن يمرّ بلا صدمات كبرى. لذلك يفضّل إدارة التحوّل من تحت الطاولة، عبر الأمن، والمؤسسات، والالتزامات غير المعلنة، والتكيّف الصامت مع الشروط الدولية، بانتظار لحظة نضوج داخلية مصطنعة.
أما نواف سلام، فتبدو مقاربته أكثر براغماتية وظيفية، تنطلق من موقعه كمنفّذ سياسي لا كصاحب مشروع طويل الأمد. سلام لا يسعى إلى صناعة إجماع، ولا يعنيه بناء شرعية وطنية لمسار التطبيع، بقدر ما يعنيه تحييد حكومته عن الانفجار الكبير الناتج عنه.
هو مستعدّ لدفع ثمن مستقبله السياسي مقابل تمرير القرار الخارجي، انطلاقاً من قناعة راسخة بأنّ وظيفة السلطة في لبنان لم تعد إنتاج القرار، بل إدارة نتائجه. هنا، لا يُقاس التطبيع بقبوله الشعبي، بل بقدرته على العبور بأقل خسائر مؤسساتية، ولو على حساب تفكك الثقة بين الدولة ومجتمعها.
في المقابل، يمثّل سمير جعجع الوجه الصريح وغير الموارب للمشروع نفسه. فهو لا يتعامل مع التطبيع كتكتيك أو مسار مرحلي، بل كخيار استراتيجي نهائي يجب حسمه بسرعة.
في خطابه، لا مكان للالتباس أو التدرّج. يرى أنّ الزمن يعمل ضد هذا المشروع، وأنّ أي تأخير يمنح المقاومة فرصة لإعادة إنتاج نفسها. لذلك يدفع باتجاه الصدمة الكبرى، معتقداً أنّ كسر التوازن دفعة واحدة أقل كلفة من إدارته على المدى الطويل.
وهنا، يصبح التباين بين الثلاثة تبايناً في الشكل لا في المضمون. فبين التطبيع الهادئ لعون، والتحييد البراغماتي لسلام، والاندفاعة الحاسمة لجعجع، يتوحّد الهدف الاستراتيجي:
إخراج المقاومة من معادلة القوة، وتجريدها من شرعيتها، تمهيداً لإعادة إدماج لبنان في معادلات إقليمية جديدة تُدار من واشنطن وتُموَّل من الرياض.
ولا يمكن فصل هذا التلاقي عن الخلفية الخارجية المشتركة. فجوزيف عون وسمير جعجع، رغم اختلاف الموقع والدور، يلتقيان على مسار سياسي واحد، وعلى مرجعية واحدة، وعلى عقيدة أمنية – سياسية ترى في المقاومة خطراً وجودياً لا شريكاً وطنياً. الفارق أنّ عون يغلّف هذا الخيار بلغة الدولة والمؤسسات، فيما يقدّمه جعجع بلغة المواجهة الأيديولوجية الصريحة.
في المحصلة النهائية، لا يعكس المشهد اللبناني صراعاً بين مشاريع متناقضة، بل صراعاً بين مدارس مختلفة في إدارة التحوّل الكبير. إنّه خلاف على طريقة الهدم لا على قرار الهدم، وعلى سرعة التفكيك لا على غايته.
فالقرار الاستراتيجي اتُّخذ خارج الحدود، وتكفّل الداخل بتوزيع الأدوار: من يهيّئ الأرضية، ومن يخفّف الصدمة، ومن يتولّى كسر المحرّمات دفعة واحدة.
لكن ما يغيب عن حسابات هؤلاء أنّ لبنان ليس صفحة بيضاء، ولا المقاومة مجرّد تفصيل قابل للمحو الإداري أو السياسي. فالتاريخ اللبناني يُظهر أنّ كل محاولة لإعادة هندسة التوازنات بالقوة أو بالإملاء الخارجي، انتهت بانفجارات أعادت إنتاج الصراع بأشكال أكثر حدّة وتعقيداً.
إنّ أخطر ما في هذا المسار ليس التطبيع بحد ذاته، بل تحويل الدولة إلى أداة تنفيذ بلا ذاكرة ولا سيادة، وتفريغ مفهوم الوطنية من محتواه، وتحويل الخلاف السياسي إلى مسألة تقنية تُدار في الغرف المغلقة.
هنا، يصبح لبنان مشروع إدارة أزمات دائمة، لا دولة قرار، وتتحوّل السيادة إلى بند تفاوضي، لا إلى عقيدة وطنية.
السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه ليس: كيف ومتى يحصل التطبيع؟
بل أي كيان سينتج عنه؟ دولة محايدة بلا قوة؟ أم دولة منزوعة الإرادة؟
أم ساحة مفتوحة تُدار بالوكالة؟
ذلك أنّ المسارات التي تُبنى ضد توازنات الداخل، وتُفرض على مجتمع لم يُهزم، لا تصنع سلاماً، بل تؤجّل الانفجار، والرهان على الوقت، أو على إنهاك المقاومة، أو على تبدّل الوعي الجماعي، لطالما كان الرهان الأكثر كلفة في تاريخ هذا البلد.