أين كانت أمريكا والى أين وصلت, مع بداية القرن الواجد والعشرين سعت أمريكا أن يكون هذ القرن قرناً امريكياً بإمتياز, فكانت مسرحية برجي نيويورك البداية وشنت الحرب التي أسمتها مستدامة على أفغانستان قبل أقل من شهرمن هجوم البرجين وتبعتها بحرب على العراق وحروب على لبنان وكالة في لبنان في العام 2006 وحروب في غزة وأخرى في سوريا فكانت االرا عكس ما تشتهييه سفنهاو نترك لكم هذا المقال للأستاذ الكاتب اللبناني هشام صفا ليستكمل المشهد.
إضاءات
كانت منطقة الشرق الأوسط وما زالت من أكثر بؤَر التوتّر العالمي تعقيداً، ذلك لأهميتها الجيوسياسيّة من جهة ولسعي معظم الأطراف الأقليمية وكافة الأطراف الدولية في فرض نفوذها فيها بدوافع متفاوِتة من جهة أخرى.
عين على أميركا: ماذا بعد النكسة الأخيرة
وبالتوازي مع كافة المُتغيّرات الدولية كانت فصول الصراع في الشرق الأوسط تحمل مشاهد التوتّرات والنزاعات المسلّحة بين عدّة أطراف، بعضها يسعى نحو لعب دور عالمي وآخر يسعى نحو لعب دور إقليمي، أما المُشتَرك بين الجهتين فهو تأمين المصالح ولو على حساب مصالح وحضارات شعوب ودول العالم القديم، أي أهل هذه المنطقة.
تبدّلت فصول الصراع في المنطقة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية ومرّت بعدّة مراحل:
- الأولى فترة الحرب الباردة حيث كان الصراع مقتصراً على حروب خاضتها دول وحكومات المنطقة لصالح أحد القطبين العالميين.
- الثانية فهي الحرب المباشرة التي خاضتها الولايات المتحدة والغرب بوجه العراق الذي كان يسعى رئيسه صدّام حسين لفرض نفسه على الساحة الدوليّة للعب دور اقليميّ مُعيّن.
- الثالثة فهي حرب الوكالات التي خاضتها أميركا بتأييد من الغرب عبر إسرائيل (حرب 2006 وما تلاها من حروب على غزّة) والسعوديّة (حرب اليمن) وداعش (الحرب على سوريا والعراق) وكان المُستهدَف من تلك الحروب هو "التمدّد الايراني" حيث سعت طهران ونجحت في بلوغ دورٍ إقليميّ مُشكّلةً بذلك مُفارقة كبيرة في موازين الصراع بين ما هو قائم على تأمين مصالح دول كبرى وما هو قائم على تأمين مصالح وتطلّعات شعوب المنطقة وبعض حكوماتها.
ويبدو أنّ المرحلة الثالثة شارفت على الانتهاء، فحرب الوكالات التي بادرتها أميركا وأيّدها الغرب، وبغضّ النظر عن نتائجها ستنتهي حتماً مع خروج السعودية مع مَن تقود من اليمن مُعلنة بذلك أفول مرحلة الحروب بالوكالة (كمرحلة وليس كمبدأ) وظهور مرحلة أخرى جديدة، ومن هنا يصبح العمل على استشرافها أمراً بالغ الأهميّة على مستوى المواجهة الاستراتيجيّة، ويحمل دلالات تعكس المشاهِد المُتوقّعة في الفصل الجديد وما يمكن أن تولّده من نزاعات مسلّحة وحروب اقتصاديّة وثقافيّة وسياسيّة.
للمُقاربة المبدئيّة والسريعة، ولتلافي الإسهاب نطرح عدّة أسئلة ما هو شكل الصراع في المرحلة القادمة؟ وما هو عنوانه؟ وكذلك ما هي أدواته التي باتت العامِل المُتغيّر الأساسي بعدما ظهر عُقم وفشل الأدوات في المرحلة السابقة؟.
إنّ الشكل المُفترَض للصراع في المرحلة القادمة هو بين الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الإسرائيلي من جهة، وإيران وأوروبا وروسيا من جهة ثانية ، وهذا شكل قهريّ أفرزته التوازنات العالمية الجديدة وليس خياراً أميركياً، وقد حاولت أميركا بافتعالها لأزمة الخليج مؤخراً خلق ترتيبات أخرى مفادها جرّ الاتحاد الأوروبي (وبريطانيا ضمناً) إلى فرض توازن في مياه الخليج بحجّة تأمين ممرات التجارة البحريّة ولكنها فشلت، ثمّ قامت بدفع بريطانيا نحو الاتحاد الأوروبي ولكنها فشلت أيضاً، ثمّ قامت بالتوجّه الى العالم بأسره (الصين والهند وكلّ الدول) وأيضاً فشلت، عندها قامت إيران بهجوم مُعاكِس لقلب صورة الموازين فاستجرّت روسيا وفتحت الباب أيضاً لمشاركة كافّة دول المنطقة، وبخطوتها هذه استطاعت إيران تحديد الشكل الجديد المُفترَض للصراع في المرحلة القادمة بما لا يسمح للولايات المتحدّة بمناورة مستقبليّة كاملة العناصر.
أما بالنسبة إلى عنوان الصراع المفترض والذي يعني موضوع الصراع فلن يكون هذه المرّة حرب وكالات بل سيكون تسابقاً على تحسين الوضعيّة، فإيران التي لم تعد ترتقب حرباً يمكن أن تطالها في المدى المنظور والمتوسّط، لا في ذاتها ولا في إحدى أذرعها الأقليميّة ، ستسعى في هذه المرحلة نحو ترسيخ علاقاتها مع شعوب وحكومات المنطقة وستسمح لكافّة الأقطاب بتأمين توازن مرحليّ في الشرق الأوسط يسمح لها من ناحية في ترسيخ فكرتها في الأمن الجماعيّ القائم على تعدّد الأقطاب، ومن ناحية أخرى في الحصول على استقرار ونموّ إقتصاديّ سيجعلها قادرة على الخروج بحلّة جديدة سياسيّة وعسكريّة تكون فيها قادرة على أخذ مكانة عالميّة ودوليّة ولعب دور سيكون أبعد من حدود فلسطين المحتلّة.
وبالنسبة للدول الأوروبيّة وكذلك لروسيا أيضاً، فالسعي واضح لديها نحو ضرورة الإطّلاع على دورٍ دوليّ لإيجاد الدور المناسب في صوغ توازنات الصراع العالمي من جهة وللخروج من التبعيّة الأمنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي فرضتها السياسة الخارجيّة للبيت الأبيض على معظم دول العالم الصديق قبل العدو من جهة ثانية.
وقد لا يبدو غريباً انفراد الولايات المتّحدة في مواجهة إيران في الفترة الأخيرة بعد عدم الاستجابة من الاتحاد الأوروبي للانخراط ، ورغم أنّ الدعوة لم تكن لأجل حرب واقعة بل لأجل تأمين مناخ سياسيّ وعسكريّ مقابل إيران في المستقبل، فسعي أوروبا في الانفكاك عن التبعيّة لواشنطن أصبح أمراً حتميّاً والشواهِد كثيرة، وإذا ما أردنا تفسير الأحداث الأخيرة في الخليج على أساس أنها كانت رسائل سياسيّة ضاغِطة من كلا الطرفين باتجاه أوروبا لوجدنا أنها تفسيرات حقيقيّة ومن رحم الواقع السائد.
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة وعنوان صراعها الجديد المفترض، فهي وبالرغم من أنها لم تعد صاحبة اليد الطولى لكنها صاحبة مكتسبات ، ولا يمكن أن تتخلّى عن أيّ مكتسب إلاّ مقابل ما هو أفضل، ومن هنا يطرح السؤال الشهير نفسه لماذا تتصرّف واشنطن بهذه الطريقة مع السعوديّة؟ الجواب الطبيعيّ لصالح مكتسب أهم لا كما يصوّر البعض أنه مُجرّد ضغط لحلب أموالها وحسب!!.
لن تتخلّى أميركا عن "إسرائيل" ولا عن علاقتها مع تركيا ومصر ودول الخليج، كما لن تتخلّى عن قواعدها في الخليج والنّقب والتنف وقريباً في شرق الفرات وفي الرياض، كما أنها ستحاول الصمود في العراق وافغانستان بسفاراتها وقواعدها العسكريّة المتعدّدة المهام.
إن تمسّك الولايات المتحدة بتلك المُكتسبات ومحاولة تطويرها يعطي دلالة على طبيعة نيّتها للعمل في المستقبل، كما يعطي دلالة على عنوان المرحلة الجديدة الذي اعتبرناه "تحسين وضعيّة" ولكن أيّة وضعيّة وأيّة مكتسبات قادرة حفظ مكانة أميركا في الشرق الأوسط بعد انفكاك أوروبا عنها ودخول روسيا على الخط وصعود إيران بقوّة عسكريّة ودبلوماسيّة قادرة على ضبط الإيقاع بشكل كامل؟؟. نعم ، هذا صحيح ، ولكن الجواب يبقى لدى صنّاع الأزمات والحروب الأميركيين وهل من الصعب على مَن استخرج التكفيريين من كُتب تاريخ فجر الإسلام على أن يستخرج مَن هم أسوأ من كُتب تُدرَّس الآن في مدارسنا!!.
وأمّا بما يختصّ بأدوات الصراع والتي – وكما أسلفنا – أصبحت صَدِئة، فمن دبلوماسيّة المُكر التي سعت في شيطنة إيران أمام الرأي العام الأوروبي باتهامها بالسعي للحصول على السلاح النووي بحجّة امتلاكها صواريخ بالستيّة قادرة على حمل رؤوس نوويّة ، إلى دبلوماسيّة حماية دول الخليج من الخطر الإيراني، إلى دبلوماسيّة التقارب العربي الإسرائيلي المُصطَنع وسياسة التطبيع وأطروحة صفقة القرن، وكل تلك الألاعيب التي لم تنل استحسان دول المنطقة سقطت بضربة واحدة عندما ثبّتت أوروبا انفكاكها عن أميركا وعندما صرّحت السعوديّة أنها لا تسعى إلى حرب مع إيران ، وأيضاً عندما بدأت وفود دول الخليج بزيارة طهران والسعي معها نحو صيغ لتأمين الملاحة وضبط أمن الخليج.
أمّا من ناحية أداة العقوبات الاقتصاديّة ورغم حساسيّة الوضع الإيراني فإن المُراقب للداخل الإيراني والذي لاحظً حجم انخراط الشعب الإيراني والمجتمع المدني مع الدولة في مواجهة الحصار، يدرك سريعاً حجم الفشل الذريع لتلك العقوبات التي وإن حقّقت أهدافها، ولكن تلك الأهداف لم تكن مُتلائِمة مع ماهيّة الحرب الاقتصاديّة والغاية من تلك الحرب، والتي تتلخّص في خلق انفكاك وفجوة بين ركنيّ الدولة، الشعب ومؤسّسات الدولة تمهيداً لحملة عسكريّة تقضي على ما تبقّى من قوّة ودولة.
وأخيراً ، يبقى الكلام عن الأداة الأمضى وهي القوّة العسكريّة والحديث عنها يطول ولكن وباختصار شديد، فلقد استطاعت إيران ومن خلفها محور المُمانعة في كَسْر النظريات التي قامت عليها فلسفة القوّة العسكريّة في جيليها الثالث والرابع، فبعد حرب تموز 2006 وحروب غزّة المُتعاقِبة والحرب على سوريا واليمن، لم تعد عقائد الجيوش الحديثة العسكريّة قادرة على الإجابة عن كثير من الأسئلة، لا على المستوى العسكري العام ولا على المستوى التعبوي ولا العملياتي، فالنظريات التي تعتمد على عقائد الجيل الثالث قد انكسرت زحوفاتها أمام قوّات شعبيّة مارست الدفاع لا حرب العصابات، والنظريات التي تعتمد على عقائد الجيل الرابع المستند الى القوّة الناعِمة كمبدأ عام، سقطت أمام قدرة محور المُمانعة على ممارسة الحرب الناعِمة والتي نظّر لها بما يكفي قائد الجمهوريّة الإسلاميّة السيّد الخامنئي ومارسها السيّدان نصرالله والحوثي بمهارة أدّت إلى هزائم كثيرة لا يسع المجال للحديث عنها.