ما يظهر علينا جميعًا من تفاعلات نفسية وسلوكية في هذه الحقبة الزمنية المحلية والعربية العصيبة (حقبة العجائب)، تقترب كثيرًا من حالة (حسرة الحداد) والفقد في التشخيص النفسي، فالتفاعلات هي ذاتها التي تلي موت عزيز أو فقدان حبيب أو ضياع الأمل. الفرق هنا يقتصر أن الحداد الاعتيادي يحمل صفة (فردية) باقتصاره على ذوي الفقيد، في حين أن الحداد العام في هذه المرحلة يحمل صفة (جمعية) بشموله السواد الأعظم في الحداد الوطني والعربي في ذات الوقت.. إن التطرق لهذا الموضوع بات أكثر إلحاحًا في هذا الوقت بالذات من أي وقت آخر،، وهل هناك (حسرة) حداد أشدّ وأنكى من رؤية القتل والدم والتشويه وتهديم البيوت وتمزيق الأوطان وتهجير الشعوب والموت الفردي وبالجملة؟؟ أم هل يوجد خطورة تستدعي (الحداد العربي) أصعب من استشعار عدم مصداقية العالم، وفقدان بوصلة الاتجاه، وهلامية العدالة، وسيادة قانون الغاب؟؟!! إن عجزنا عن تحقيق (حلمنا العربي) الكبير هو ارتباطنا الوجداني بمشاريع كبيرة تحمل سمة العروبة -ربما حلم أكبر من مقاسنا- وعلى الرغم من اختلاف آرائنا وأهوائنا، إلاّ أن ما يحصل اليوم جعلت من كل مواطن فينا صاحب (بيت عزاء) يعاني حسرة الحداد وحرارة الفقد، ولكن كلٌ على طريقته الخاصة، والتي تختلف باختلاف مدى شدة الارتباط بالوطن الصغير والكبير على حد سواء.. هذا الحلم العربي جعلنا نتشبث بمنطاد هواء عملاق بحجم حلمنا على أمل الارتفاع والتحليق عاليًا بعلوّ الحرية وسموّها لاشتمام شذاها، ثم نكتشف بلحظة واحدة ونحن على ارتفاع (غير مأمون) أن هذا المنطاد الموهوم ما هو إلا (فقاعة) مصيرها أن تهوي بنا إلى القاع تاركة فينا رضوضًا وإعاقات عديدة، وهذا هو حالنا في الوقت الراهن، إصاباتنا هنا دون شك على الإطلاق (نفسية) بحتة، تأخذ شكل العواطف والسلوكات والانطباعات المسكونة بحسرة الحداد والخذلان وفقدان الأمل وتهاوي الحلم العربي.. ردات فعلنا الأولى باتجاه الأزمات المحلية والعربية غدت تأخذ شكل (الخدر العاطفي) قد تصل حدًا أعلى أحيانًا تقترب من (التبلّد العاطفي)، بسبب توالي الصدمات والفجائع العربية وتكرارها بمشاهد مأساوية تارة وهزلية تارة أخرى. تلك المشاعر هي خليطة غير مفهومة ولكنها حقًا مرهقة جدًا، فمشاهد (الذهول) على وجوه بعضنا بعد كل حدث ما هي إلاّ نوع من "الحذر العاطفي" وهو أيضًا متوقع. أما البعض الآخر منا يتميز باستخدام الدفاع النفسي الأكثر شهرة وهو دفاع (الإنكار)، ويظهر على ردات فعلهم وطريقة تفاعلهم مع الأحداث، كاعتقادهم مثلاً أن معجزة ما ستحدث لا محالة ستخلصنا من أعداء الأمة، وستعيد لنا وطننا المسروق، وستوحد ما تفرّق من الأوطان، وستلمّ شمل من تشتت من الشعوب، وسترتق فتق العروبة بخيوط سحرية تقلب الحسابات جميعها!! للأسف هؤلاء لا يزالوا إلى الآن في حالة الإنكار رافضين تقبّل الواقع المرير ومعطيات المنطق البسيط. ندعو لهم بعودة محمودة إلى بوتقة المنطق والواقع الحقيقي لا الخيالي.. المرحلة الثانية التي تلي الصدمة في حالة (حسرة الحداد العربي) هي ظهور مشاعر واضحة حادة من الحزن، والانسحاب الاجتماعي، والتجنّب لأحاديث وأخبار العرب والحرب، ثم تتغير النظرة إلى العالم والحياة والمبادىء، وقد تترافق مع اضطرابات جسدية وبيولوجية مزعجة أغلبنا يعاني منها، والأخطر عندما تسود فكرة فقدان الأمل بالمستقبل مما يدعو إلى ضعف الهمّة، وضعف الإنتاج، وقلة الاهتمام بكل شيء قد يصل أحيانًا حدّ إنهاء الحياة أملاً في حياة أخرى أكثر أمانًا وعدالة.. ولكن،، من المفترض بنا بعد كل تلك الهزائم والأزمات أن ندرجها إلى ملف خبراتنا وتجاربنا المرّة، ونستفيد منها، فالجانب المليء من الكأس يفيدنا بقدرتنا على الخروج من تلك الأزمات بخبرات مفيدة حتى لو كانت صادمة، وبآليات تعامل أكثر نجاعة، وبقدرة أكبر على الصمود أمام العاصفة، وما أكثر العواصف. ومن المفترض أيضًا أن نعيد صياغة أفكارنا ومعتقداتنا ونعيد النظر في إنجازاتنا، فالأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدّل الأيام، والذي يريد أن يبقى على آرائه (العتيقة) هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شدّاد أو يحارب الدبابة بوابل من الشتائم.. نحن جميعًا في الأردن وفي الوطن الكبير نرقب بتوجّس ما يحدث في بلاد العروبة، وما زلنا نحلم ونأمل بذات الوقت بوحدة عربية عملاقة، تقاوم فينا الداء بضراوة الأشاوس، وحريٌ بنا أن نتوقع الأفضل، لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا؛ فكفى بنا أن نبقى مشدوهين أسرى للخذلان، فالعبرة لمن يعمل على (مناعة) قادمة يسقط على جدرانها ذلك الداء المسرطن؛؛ (فدرهم) وقاية خير من (برميل) علاج أو (صهاريج) سلاح .. نحن الأردنيون كما كثير من العرب الشرفاء بهويتنا الوطنية الجامعة ما زلنا قابضين على جمر الوفاء للوطن العربي ولا نحتمل حالة الغموض ولا الفراغ ولا النصر الكاذب، فلا يسكرنا انتصار ولا يخملنا انكسار؛ فنحن كالعائمين على بحيرة من السعادة ينعكس على صفحتها أديم السماء.. أخيراً أقول : طوبى للفرحين الذين يصنعون فرحهم بعد الكدر والألم. واستحضر هنا وبشدة أوبريت الحلم العربي: "أجيال ورا أجيال حتعيش على حلمنا والي نقوله اليوم محسوب على عمرنا، جايز ظلام الليل يبعدنا يوم إنما يقدر شعاع النور يوصل لأبعد سما، داه حلمنا طول عمرنا حضن يضمنا كلنا ".. لا بديل أمامنا اليوم سوى الحفاظ على أحلامنا وأمنياتنا وآمالنا، لعلنا نصل يومًا ما إلى حضن عربي يضمنا كلنا كلنا، يمكن حينها نستطيع أن نفضّي قلوبنا المليانة يا عرب.. وحتى ذلك الحين سيبقى لنا من الحلم العربي حديثٌ آخر وبقية...دمتم...
دة. عصمت حوسو
رئيسة مركز الجندر(النوع الاجتماعي) للاستشارات النسوية والاجتماعية



