كتب نارام سرجون:
اذا كان للانسان معركة في الوجود فهي ان يفصل الوهم عن الحقيقة .. فكل الاسرار في الوجود مختبئة او مخباة تحت الأوهام أو ان دمها مختلط بدم الاوهام .. ولانراها الا اذا فصدنا دم الوهم من عروقها .. فكيف لنا ان نعرف حقيقة الوجود ونحن نعيش اوهام الاله واوهام الانفجار الكوني الكبير .. فلاندري اين بدأ الاله واين انتهى الانفجار الكبير .. ولاندري اين يبدأ الانسان في الانسان واين يبدأ الحيوان فيه .. وأي الوهمين هو مايجب ان نزيله ونفصله لنعرف الحقيقة؟؟ ..
لكن هناك اوهام هي من صنعنا وهي التي نتفنن في صياغتها وتداولها وارتدائها كما نفصل أزياء الموضة والوان الثياب .. اوهام في السياسة وفي التاريخ وفي الجغرافيا .. وأوهام في المنطق أيضا ..
ماأكثر الاوهام في هذ العالم التي تحيط بالحقائق حتى صارت الحقائق في غشاء من أوهام .. وكأنني أحيانا كلما نظرت حولي أرى انني محاط بالاوهام .. أوهام الجغرافيا حيث تنشطر الأرض كفالق عميق عند حدود المصنع في الطريق الى لبنان وحيث تصبح فلسطين قطعة من القمر .. أصل اليه قبلها .. وعندها تبدأ اوهام المنطق الذي يقول انها ارادة الاستعمار رغم اننا أكثر من الاستعمار حرصا على ارادته .. وعندما يصبح المنطق مزيفا ومزينا بالوهم التاريخي والجغرافي تحس حتى كأن كل هذا الوجود وهم كبير ووميض سريع بلا أثر ..
أليس هناك وهم صنعناه بأنفسنا عن تفوق الغرب أخلاقيا وحضاريا وتكنولوجيا؟؟ اليس من نتائج هذه الاوهام وهم ان اسرائيل لاتقهر وان الاسرائيليين باقون لأنهم لايقهرون لأنهم ولاية امريكية؟؟ أليس من الاوهام الفضائحية هي مانتخيل انه امكانية السلام مع الاسرائيليين وهم يفاوضوننا وفمهم ملآن بالمستوطنات ومحشو بقرارات التهويد من الفرات الى النيل؟؟
وأما أبو الاوهام فهو أننا نؤمن بالديمقراطية الغربية .. هل هناك أتفه من وهم الديمقراطية الغربية؟ وهنا أريد ان اتوقف مع هذا الوهم الكبير حيث الفرد في الغرب يقرر مصيره بنفسه ومصير السياسة في صندوق الانتخابات وفي ممارسة الحرية في حياته اليومية .. وهذا الوهم مصدره اثنان هما .. هم .. و نحن .. فالديمقراطية بضاعة مثل اي بضاعة ومثل اي منتج صناعي .. ومثل اي فكرة لبرنامج تسلية او اغان او مواهب نقتبسه من هنا وهناك .. والتاجر الشاطر هو من يسوق لبضاعته ويجعلها البضاعة الافضل في السوق .. وكي يجعلها البضاعة الافضل فانه يشن حرب شائعات وترويجا لبضاعته .. فيشوه سمعة البضائع المنافسة ويقدم حملات اعلانية واسعة لاظهار منتجه على انه المتفوق ..
أما نحن فاننا كنا المنافسين في سوق البضائع السياسية والأفكار ولكن لعبنا دور المنافسين الدروايش .. لاخبرة لنا بالتسويق ولاالترويج ولابالألعاب النفسية والبهلوانية التجارية والترغيب بالمنتج .. كنا مثل الفلاحين الذين لديهم منتج فائض من الفاكهة الناضجة والطبيعية واللذيذة التي لاتعرف الكيماويات ولا الغش .. ولكن صاحب السوبرماركيت المنافس لنا كان ينظف فواكهه ويلمعها ويصففها ويغلفها ويضعها في علب ملونة مشمعة .. في حين اننا عرضنا بضاعتنا في "سحاحير" خشبية على قارعة الطريق عليها غبار الارض وطين الارض .. فحتى أبناء الفلاح صاروا يرغبون في شراء الفاكهة المحفوظة في البرادات من السوبر ماركيت وتركوا "سحاحير" أبيهم الخشبية بما فيها ..
الديمقراطية الغربية المعروضة في السوبرماركيت الأنيق الفخم ومولات السياسة ليست افضل طريقة للتعبير عن التوافق والتوازن والتجاذب السياسي .. كما ان بضاعتنا رغم جودتها فانها لم تكن نظيفة من الشوائب والأتربة التاريخية والحشرات والقوارض والديدان التي عششت في "السحاحير" الخشبية والخطابات الخشبية .. والقوارض والديدان في الثقافة هي مجموعة الافكار الهدامة والشخصيات التي تفتك بالثقافة وتسبب هلاكها ..
اليوم في أزمة كورونا يطرح البعض نظرية ان النظام الرأسمالي الغربي يهتز ويترنح وسينهار لأنه فشل اقتصاديا وأخلاقيا وطبيا في تقديم الحماية والخدمات التي تقدمها الانظمة التي تديرها الدولة المركزية لا رأس المال .. واكتشف المواطن الغربي انه لايعيش في افضل الانظمة وأن السوبرماركت السياسي ومول الديمقراطيات كان يبيعه بضاعة مغسولة بالكيماويات والسموم الاعلامية والمواد الحافظة حتى صارت بلا طعم ولانكهة ولافائدة وبأسعار باهظة ..
أظن اننا نعرف كل مفاصل وازمات النظام الرسمالي .. ولكن الذي لانعرفه في النظام الراسمالي هو أمر واحد فقط هو المواطن الاوروبي الذي تقوم عليه الانظمة الرأسمالية .. لأن نقطة ارتكاز النظام الرأسمالي ومصدر قوته السحري هو هذا المواطن الذي تحول بفعل الثقافة المتراكمة منذ عهد الكنيسة الى عهد الآلة الى مواطن مدجّن وهو خليط من صنع العصر الربوبي الكنسي الاقطاعي ومن العصر الصناعي حيث رب العمل الذي يتحكم فيه وبرزقه .. فتحول الى كائن لايثور ولايتمرد مهما بلغت به قسوة الحياة .. ومهما بلغ الفساد في تفاصيل حياته .. لأنه يعيش في قناعة ان آخر نقطة في العالم عنده وأنه وصل الى حافة التاريخ التي لاتاريخ بعدها .. وأن آخر ثوراته هي الثورة الفرنسية .. اذا اعتبرنا ان حركة مارتين لوثير هي حركة تصحيح من داخل المعبد وليست من خارجه ..
كثيرا ماوجهنا اللوم الى مواطننا المشرقي على ان الجامع والحوزة والكنيسة لها سطوة على عقله وسلوكه أكثر من الدولة .. ولكن عقل الاوروبي لايزال رغم غياب الكنيسة يعيش بعقل مروض وخاضع لسلطة ما حوله في اللاوعي وكأنها الكنيسة القديمة لاتزال تخيفه .. فالاذعان للكنيسة وللايمان الكنسي لقرون طويلة جعلته مطواعا ولايقدر على الرفض .. ولذلك فان العملية الديمقراطية كانت طريقة له لتجنب القاء اللوم على الذات ..ولتجنب تحمل المسؤولية .. وهي نوع من تفادي عقدة الذنب تجاه الخوف من التمرد .. فالانتخابات جنبته دوما عملية التغيير الضروري .. والانتخابات لاتقودها النخب الفكرية بل الطبقات الثرية .. وهي لعبة الارقام ولعبة نفسية بطلها المواطن البسيط الذي يشكل غالبية المجتمع والذي غالبا لايعرف كيف يتم توجيهه في اللعبة الخفية للانتخابات .. فالناس تتبع الحكايات والاساطير والمخاوف .. وهذه لب عمية الانتخابات الديمقراطية لأن من يقرر نتيجة الانتخابات هم غالبية من الجمهور ليست لديها اي فكرة عن السياسة الا في حدود بيتها وشارعها ومستلزمات حياتها اليومية .. ولذلك تجد انه رغم كل الانتخابات في اوروبة الغربية فان كل التغيير الرئيس في خطها العام كان محدودا جدا .. ومصير الانتخابات البريطانية مثلا التي اخرجت اليساري جيريمي كوربن بطريقة مهينة دليل فاقع على ذلك .. فالرجل كان مستقلا وقويا ويمثل الفقراء والعمال .. ولكن من نبذه في الانتخابات هم العمال والفقراء الذين كانوا يحتفلون بهزيمته وانتصار البنوك عليه لأن لعبة الانتخابات هي لعبة الاثرياء الذين أخذوا الفقراء البريطانيين أيضا خارج الاتحاد الاوروبي .. فرقص الفقراء على أنغام البنوك كما رقص العرب على أنغام الربيع العربي وانتصار البنوك الاوروبية في لعبة الربيع العربي على أنظمتهم ودولهم ومجتمعاتهم .. الراقصون في الغرب لايختلفون عن الراقصين في الشرق من حيث الجهل بالعازفين خلف الكواليس في الظلام ..
واليوم في أزمة كورونا يراهن الكثيرون على ان الاهتزاز الاقتصادي والاجتماعي في اوروبة سيطيح بالنظام الرأسمالي وينهي سطوته ويرخي قبضته عن الحياة العالمة والسياسة .. ولكن من خلال معرفتي بالغرب والانسان الغربي ورجل الشارع العادي فانني سأخالف الراي رغم ان الاتحاد الاوروبي قد يتفكك ولكن تفككه مقرر قبل الكورونا .. وسبب قناعتي هو ان هذا الانسان الاوروبي مروض جدا وغير قادر على تغيير أقداره لأنه خاضع في اللاوعي الى سلطان يشبه سلطان الكنيسة القديمة وسلطان رب العمل .. ولذلك تجده يخوض الحروب ويقاد الى الحروب المدمرة كل بضعة عقود ولايزال مقتنعا انه يمسك بنهاية التاريخ والزمن وانه على حافة التاريخ ولايمكنه ان يتقدم خطوة واحدة الى أي نهاية أخرى .. وخير مثال هو حربان عالميتان .. وحرب على العراق وحرب على الفلسطينيين .. وحرب على السوريين .. وقبل ذلك كثير .. ولم يقدر ان يغير من سلوك حكوماته قيد شعرة .. فرغم انه صار يعلم ان هناك خداعا في السياسة كان جليا في اسلحة الدمار الشامل العراقية فانه أعاد نفس السيناريو في سورية ولم يجرؤ على اتهام حكوماته انها كذبت ولاتزال تكذب وانها يجب ان تتوقف عن هذه الشعوذات السياسية التي تورطه في نزاعات صهيونية لاتهمه ..
من ينتظر ان تتغير الأحوال في الغرب بعد أزمة الكورونا فانني أستميحه عذرا بأن أقول بأننا نتحدث لاننا نرى العيب في النظم الراسمالي الغربي أما الانسان الاوروبي فانه لايرانا ولايرى مانرى وهو لايزال ينظر الى انه يقف على حافة التاريخ .. وكل تغيير سيرمي به الى الهاوية ..
في انتظار عودة غودو ليست مسرحية عادية .. بل رمزا لشيء ننتظره ولن يحدث .. وكثيرا مانلجأ الى هذا العنوان للتعبير عن اننا نعيش وهما لاوجود له .. انا أرى ان المسرحية اوروبية وهي تعبير تتوارى خلفه أحلام اوروبية كثيرة لكنها لن تتحقق .. غودو لم يصل في المسرحية الشهيرة .. ولن يصل بعد الكورونا .. والنظام الراسمالي المتوحش سيلقي بهذا المواطن المسكين في أزمة اقتصادية طاحنة .. لأنها أزمات دورية كل عقد او عقدين عندما يرى اصحاب النظام الرأسمالي ان الثروة تركزت في جهة وفي أيدي البعض فانه يعيد تدويرها ونقلها الى ايد جديدة .. فيتحول أغنياء الامس الى فقراء .. وأغنياء اليوم هم فقراء الأزمة القادمة .. وهكذا .. لن يصل غودو .. قريبا .. والأفضل ان ننتظر شيئا غير غودو .. في هذه المرحلة على الاقل ..
نارام سرجون