جدلية العلاقة بين وعد بلفور وقرار التقسيم ودور الامم المتحدة...؟!
يستحضر الفلسطينيون ومعهم العروبيون كلما حلت الذكرى السنوية للنكبة الفلسطينية واغتصاب فلسطين واقامة تلك الدولة الصهيونية على خرابها، في مقدمة ما يستحضرونه ما سمي ب"وعد بلفور" وبعده بثلاثين عاما "قرار التقسيم"، وكلاهما نتاج بريطاني كامل الدسم لصالح المشروع الصهيوني، فالعلاقة الجدلية ما بين الوعد والقرار قوية عميقة استراتيجية، فلولا الوعد لما جاء التقسيم، ولولاهما معا لما انجبت دولة"اسرائيل"، ولولا الاحتضان البريطاني الاستعماري الكامل الشامل للمشروع الصهيوني لما ضاعت فلسطين. *جدلية العلاقة بين وعد بلفور وقرار التقسيم. وتبدأ حكاية الغرام والعشق البريطاني بالمشروع الصهيوني و"الوطن القومي لليهود" وب"إسرائيل" على نحو حميمي وعلى وجه الحصر في 1840 حينما عقد المؤتمر الاوروبي الذي تبنى شعار "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض" في لندن، وجاءت تجليات هذا المؤتمر والشعار في 1917، حينما اصدر وزير الخارجبة البريطاني جيمس آرثر بلفور يوم 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 تصريحا مكتوبا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد (1868-1937)، يتعهد فيه بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، ثم جاء صك الانتداب وقرار التقسيم البريطانيين. لذلك يمكن ان نوثق بداية "ان دولة اليهود اسست في لندن"، فبيان وزير الخارجية البريطاني بلفور الصادر في الثاني من تشرين الثاني 1917 في ذروة الحرب العالمية الاولى، منح اليهود- رغم أنهم شكلوا أقلية صغيرة في فلسطين في ذلك الحين-"وطنا قوميا ودولة مصطنعة مخترعة على حساب فلسطين"، وفي نظرة الى الوراء كان هذا البيان البلفوري هو الانجاز التاريخي الأهم الذي أحرزته الحركة الصهيونية في عملها من اجل اقامة الدولة، والوعد حرف وزور التاريخ والجغرافيا في الشرق الاوسط وطرح الفكرة الصهيونية الهامشية كخيار واقعي في السياسة العالمية، واستمرارية ذلك تجسدت في الانجاز الصهيوني الثاني حيث قامت الجمعية العمومية للامم المتحدة بعد ذلك بثلاثين عاما في تشرين الاول 1947 بتأييد قرار التقسيم واقامة دولة يهودية". و"كان الوعد حاضرا بعد ذلك في مختلف المؤتمرات والتحالفات الاستعمارية من مؤتمر سان ريمو /1920 الذي منح فيه الحلفاء بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، الى عصبة الأمم التي صادقت في يوليو/ تموز 1922 على صك إقرار الانتداب البريطاني، فالصك كان يتضمن في مقدمته نص تصريح وعد بلفور مع تخويل لبريطانيا بتنفيذ الوعد، كما كان الوعد حاضرا في دستور فلسطين الذي أصدرته بريطانيا بعد أسبوعين من إقرار انتدابها أمميا، حيث ضمنت مقدمته نص تصريح وعد بلفور أيضا". ليصل الى ذروته التطبيقية بتمرير قرار التقسيم في التاسع والعشرين من تشرين الثاني/1947. * تواطؤ الامم المتحدة في انتاج قرار التقسيم. وتفيد الوثائق المتسربة من ارشيف الامم المتحدة، ان تلك المنظمة الاممية وقفت سرا الى جانب قرار التقسيم البريطاني والى جانب تلك الدولة الصهيونية المصطنعة بالقوة، بل ان المؤرخ الإسرائيلي الدكتور إلعاد بن درور كان كشف النقاب في ذكرى صدور "قرار التقسيم" في 29 تشرين الثاني العام 1947، عن "أن الأمم المتحدة أعدت مخططا لتشكيل ميليشيا يهودية مسلحة ومزودة بطائرات حربية بهدف تنفيذ القرار بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فقط"، وكشف المؤرخ الإسرائيلي عن ذلك بعد اطّلاعه على وثائق سرية في الأمم المتحدة، على مدى العام/2007، وكانت مصنفة على أنها سرية لكن الأمم المتحدة أزالت مؤخرا صفة السرية عنها وفتحتها أمام الجمهور. وأكد بن درور على أن "الأمم المتحدة أهملت نصف قرار التقسيم أي أنها أهملت فكرة إقامة الدولة العربية، وقد كانت الفكرة تنفيذ إقامة الدولة اليهودية فقط وأن تعمل الأمم المتحدة في وقت لاحق على إقامة الدولة العربية"، وقال بن درور "إنه بموجب مخطط اللجنة التنفيذية فإن المهمة الأساس للمليشيا اليهودية كان فرض سيطرة الدولة اليهودية على العرب الذين بقوا فيها والذين كان عددهم في الدولة اليهودية، وفقا لخارطة التقسيم، مطابقا تقريبا لعدد اليهود". وفي مقابلة مع المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، أجرتها معه "يديعوت أحرونوت"، يكشف من خلال بحث، وصف بأنه واسع النطاق، عن وثائق نشرت في كتاب جديد "1948 – تاريخ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى"، تؤكد أن مندوبين في الأمم المتحدة حصلوا على رشاوى من أجل التصويت إلى جانب قرار التقسيم في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 1947. وبالعودة إلى الأجواء التي سبقت التصويت على قرار تقسيم فلسطين التاريخية، فإن توترا انتاب قادة الحركة الصهيونية، من جهة أن التصويت إلى جانب القرار يعني قيام "دولة إسرائيل"، وأن عدم التصويت سيشكل ضربة قاصمة للصهيونية، الأمر الذي دفع قادة الحركة الصهيونية إلى "عدّ الرؤوس"، وتبين أن نتائج التصويت لن تكون جيدة. "في هذه النقطة قرر أحدهم أن الدبلوماسية النظيفة لا تكفي، ولأن الغاية تبرر الوسيلة، يجب الانتقال إلى وسائل ظلامية، بما في ذلك الرشوة وممارسة الضغوط". ويكتب موريس في هذا السياق أن "الاعتبارات المالية كان لها تأثير على تصويت مندوبي دول أمريكا الجنوبية.. بعثة من جنوب أمريكا حصلت على 75 ألف دولار مقابل التصويت على قرار التصويت.. كوستاريكا صوتت إلى جانب القرار رغم أنها لم تأخذ مبلغ 45 ألف دولار عرض عليها.. مندوب غواتيمالا أبدى حماسا زائدا في تأييده للصهيونية ووثائق بريطانية تؤكد أنه تلقى أموالا من منظمات يهودية أمريكية كما تشير تقارير لدبلوماسيين أمريكيين أنه كان على علاقة بفتاة يهودية.. ومن الممكن أن تكون هناك حالات أخرى ولكن لا يوجد وثائق تؤكد ذلك". ورغم أن موريس لا يعتبر الوثيقة جيدة، إلا أن رسائل ومذكرات موظفين ومسؤولين بريطانيين تشير إلى وجود هذه القضايا بشأن عدد من الدول في أمريكا الجنوبية، والتي تم إقناع مندوبيها بواسطة الأموال بالتصويت إلى جانب قرار التقسيم. كما يشير إلى حالات ابتزاز، حيث قامت جهات صهيونية بممارسة الضغوط وتهديد مندوب ليبيريا بعدم شراء المطاط. وتمت أيضا ممارسة ضغوط اقتصادية شديدة على عدد من الدول، وخاصة تلك التي رفضت أن تأخذ رشاوى مثل كوستاريكا، وصوتت في نهاية المطاف مع التقسيم. ويشير في هذا السياق إلى عدد من رجال الأعمال الصهاينة، مثل صامويل زموراي رئيس "شركة الفواكه الموحدة" وهي نقابة أمريكية كبيرة ذات نفوذ واسع وخاصة في دول الكاريبي. وتلفت الصحيفة إلى أن هذه الحقائق لم تكن مفاجئة نظرا لوجود ما يشير إلى ذلك. كما سبق وأن أتى المؤرخ ميخائيل كوهين على ذكر ذلك، وأيضا كتب توم سيغيف عن ذلك من خلال ما كتبه عن تخصيص ميزانية مليون دولار لـ"عمليات خاصة". تصوروا....! هذه الحقيقة الكبيرة الضائعة...!. يضاف الى ذلك ما كان أكده بحثان تاريخيان إسرائيليان كانا صدرا بمناسبة الذكرى الستين لقرار التقسيم من "أنه لولا النشاط البريطاني في فلسطين والمنطقة وضغوط يهود الولايات المتحدة لما قامت إسرائيل، ولتغيّر وجه التاريخ في المنطقة"، اذ أكد المؤرخ موطي جولاني من جامعة حيفا "أن البريطانيين حين امتنعوا عن التصويت على قرار التقسيم في 29/11/ 1947 بدعوى أن المشروع غير مقبول من الطرفين، تبنوا خطة تقسيم بديلة"، وفي بحث آخر قال المؤرخ زوهر سيغف من جامعة حيفا "إنه لولا تدخل اليهود في الولايات المتحدة قبيل التصويت على قرار التقسيم لكان من المرجح أن إسرائيل ما كانت ستقوم". وعن استراتيجية القرار الاممي قال شلومو نكديمون في يديعوت احرونوت:" اعتقد وزير الخارجية الاسرائيلي الاول موشيه شريت:"انه لولا قرار الامم المتحدة في العام 1947 لما قامت الدولة في العام 1948". وفي اعقاب القرار كما هو معروف، انقضت التنظيمات الارهابية الصهيونية تحت مظلة القرار الاممي وبحماية ودعم البريطانيين على كامل فلسطين، فسطت سطوا مسلحا اجراميا مجازريا في وضح النهار على الوطن العربي الفلسطيني...! فقامت التنظيمات والدولة الصهيونية على خراب وتدمير فلسطين وتهجير اهلها، وما تزال تواصل تدمير وشطب عروبة فلسطين تاريخا وحضارة وتراثا ، كما قامت وما تزال تواصل تهجيرالشعب الفلسطيني وتهويد ارضه ووطنه وتحويله الى "وطن يهودي" والى "دولة يهودية نقية" يسعون في هذه الايام باستماتة من اجل ابتزاز الشرعيات الفلسطينية والعربية لها..!. بل انهم يشنون هجوما استراتيجيا شاملا بهدف شطب فلسطين بكل ملفاتها وعناوينها الى الابد...! * تغير وجه خريطة فلسطين...؟! الحقيقة الكبيرة الساطعة التي نوثقها ونحن اليوم امام ذكرى النكبة، ان ذلك القرار الصادر عن الامم المتحدة الذي استند بالاصل الى "اعلان- وعد بلفور" اعطى ما لا يملك لمن لا يستحق"، وانه كان قرارا ظالما مجحفا وقف وراءه الانتداب الاستعماري البريطاني بكل ثقله، واسفر عن قضية /نكبة القرن المتواصلة والمفتوحة والمركبة اضعافا مع الزمن، وما بين الوعد والتقسيم تراكمت عوامل تغيير وجه فلسطين وقلب الموازين الجغرافية والسكانية عبر سياسات الاقتلاع والترحيل والاحلال المستندة الى سياسات التطهير العرقي. فبعد ان كانت فلسطين بكاملها من بحرها الى نهرها عربية الجذور والتاريخ والحضارة والتراث والثقافة والمعالم على كل المستويات، اخذت تتحول منذ الوعد تدريجيا لتنتقل خريطتها الجغرافية والسكانية من عربية الى صهيونية، لتغدو اليوم ونحن في فضاء الذكرى الثانية والستين للنكبة، تحت السيطرة الصهيونية الاستراتيجية الكاملة من البحر الى النهر. ففي فلسطين المحتلة 1948 على سبيل المثال وهي عنوان النكبة والتهجير وتهويد المكان الفلسطيني تؤكد كل التقارير والدراسات العربية والعبرية على "ان الحركة الصهيونية مجسدة بدولة اسرائيل تواصل "عبرنة" و"تهويد" اكثر من 8400 اسم عربي لمواقع جغرافية وتاريخية". وحسب كتاب "المواقع الجغرافية في فلسطين - الاسماء العربية والتسميات العبرية" وهو من تأليف الدكتور شكري عراف وصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، فلم يكن في فلسطين حتى غزو الصهيونية لها سوى 50 اسما عبريا فقط، وان التوراة اليهودية لا تشمل بالاصل سوى 550 اسما لأمكنة مختلفة في فلسطين وهي في الاصل اسماء كنعانية وبادر الصهاينة الى تحوير الاسماء الاصلية او وضع اسماء عبرية على المواقع الفلسطينية، وهكذا تحولت "بئر السبع " مثلا الى "بئير شيبع" وطبريا الى "طبيريا" والخضيرة الى "حديرة" والمطلة الى "مطولة" وصفورية الى "تسيبوري" وعكا الى "عكو" وهكذا. ويتحدث الكتاب عن ان "الصهيونية غيرت وهودت 90% من اسماء المواقع في فلسطين". وليس ذلك فحسب، فدولة الاحتلال تواصل من جهة اولى مخططات تهويد ما تبقى من المواقع والاراضي الفلسطينية في فلسطين 1948 سواء في النقب او الجليل المحتلين ، بينما تشن من جهة ثانية هجوما تهويديا استراتيجيا ايضا على المواقع والاراضي العربية في الضفة الغربية ويتركز هذا الهجوم الى حد كبير على مدينتي القدس والخليل وقد امتد في الآونة الاخيرة الى منطقة الاغوار الاستراتيجية. ولكن- دولة الاحتلال لا تكتفي بتهويد الجغرافيا والتاريخ وانما تخطط وتبيت وتسعى لاقتلاع وترحيل من تبقى من اهل فلسطين بوسائل مختلفة، او تسعى لالغاء وجودهم تاريخيا ووطنيا وسياسيا وحقوقيا وحشرهم في اطار كانتونات ومعازل عنصرية هي في الصميم معسكرات اعتقال ضخمة قد يطلق عليها اسم "دولة او دويلة فلسطين" او "كيان فلسطيني" او ربما تبقى بسقف "الحكم الذاتي الموسع". لا شك ان كبرى الكبائر العربية هنا في ظل هذا المشهد المترامي الابعاد ان الدول والسياسات العربية الرسمية تأقلمت مع الامر الواقع البريطاني اولا، ثم الامريكي الصهيوني ثانيا، لتنتقل في السنوات الاخيرة ثالثا من موقع اللاءات الى موقع النعمات في التعاطي مع المشروع الصهيوني ونتاجه على الارض"اسرائيل". لم يكن "الوعد البلفوري" ليرى النور.. ولم تكن فلسطين لتقسم وتضيع وتغتصب وتهوّد، لو تصدى العرب للوعد ولمشروع التقسيم البريطاني - الصهيوني كما يجب...ولو تحملوا مسؤولياته التاريخية والعروبية كما يجب...؟
نواف الزرو
Nzaro22@hot.com



