في ذكرى انتصار أيار .. تحت تلة سجد\ د. قصي الحسين
أخبار وتقارير
في ذكرى انتصار أيار .. تحت تلة سجد\ د. قصي الحسين
25 أيار 2020 , 23:16 م
   كنت أعرف مفرق النبطية، ولا أعرف النبطية.  لعام دراسي كامل (1969-1970)، كنت أمضي الليالي القمراء، قبالة  جنائن الزرارية، على الضفة الأخرى من الليطاني، وأنا على الضفة الأخرى في حقول طيرفلسيه.  كنت ف

   كنت أعرف مفرق النبطية، ولا أعرف النبطية.  لعام دراسي كامل (1969-1970)، كنت أمضي الليالي القمراء، قبالة  جنائن الزرارية، على الضفة الأخرى من الليطاني، وأنا على الضفة الأخرى في حقول طيرفلسيه.
 كنت في ذلك العام الجامعي في كلية الآداب أيضا، أزامل شابا مثلي من بلدة حبوش/ النبطية، فأشعر أنني تعرفت، على كل أهل النبطية. كان الأستاذ إبراهيم درويش، كلما خرجنا من الصف، في الثامنة مساء، يمسكني، ويدعوني على المبيت عنده في "حبوش". فأعتذر لأنني سأكون في اليوم التالي في مدرسة طيرفلسيه.
 كنا نتبادل الزيارات،  صديقي إبراهيم، وأنا، كل صيف، حتى فراق الحرب الأهلية1975-1977.
 كنت أزوره في حبوش، أكثر مما يزورني في مشتى حسن. شعر أنه قصر عن الرد على الزيارة، بزيارة، فكان عمله الإداري الجديد، بطرابلس، لمما عوض علي من دين.
  أقام بطرابلس مع عائلته، وبناته الصغيرات، فحبب إلى قلبي، الحياة العائلية. وحين عاد للسكن في بئر العبد، ببيروت، ملتحقا بوزارة العمل، مقابل كنيسة مار مخايل، نبتت بيننا أواصر  أقوى من الصداقة،  شدت بنا لتبادل الزيارات العائلية.
  عطل إجتياح العام1982، عجلات السيارة بيننا، وأوقف الزيارات بيننا، حين ترقى صديقي، وصار "سعادة قائممقام" بنت جبيل. 
 وحين غرز  العميل سعد الحداد، أسافين الشريط المحتل، تبادلت وصديقي سعادة القائممقام،تكرار الإتصالات، وكرر علي وده، لزيارته في حبوش، في سكنه الجديد، على مفرق كفر جوز في آخر حدود حبوش الجنوبية، مع أول حدود النبطية الشمالية.
  أذكر أننا صممنا: عائلتي وأنا، لزيارة صديقي الأستاذ إبراهيم، تعويضا لما فاتنا من اللقاءات والذكريات.
 أذكر  أن جميع أفراد عائلتي، فرحوا لذلك، إلا إبنتي الصغيرة صبا. كانت في السادسة من عمرها.  وكانت تتأثر كثيرا، وهي ترى  وتسمع وتشاهد، كيف يدك الطيران الإسرائيلي أرض الجنوب، وبلدات الجنوب، وحقول الجنوب وغابات الجنوب، ويحرق فيها الأطفال، فيخرجون من لهب القنابل الفوسفورية، بهيئة دمى محروقة، سقطت من يدها سهوا في الوجاق، فبكتها كثيرا حتى ذابت عيونها. 
 كانت صبا قلقة،  حين تنهمر  الشاشة بالدماء والأشلاء. كانت تصاب بفوبيا الحرب. ولا تزال، هذة هي عقدتها وسر هروبها من لبنان  من نار الحروب، ومن حواجز الدروب، ومن مطر الصيف الرملي الأحمر ومن بكاء الرمال الحمر بعيون من جمر.
 أخفينا عليها سرنا. وشدت بنا السيارة من طرابلس إلى بيروت. وإجتزنا طريق المطار. وغذت بنا العجلات  مدخل صيدا الشمالي. شاهدت الحاجز الأمني المدعم فوق النهر. فعرفت أننا دخلنا، في أرض محرمة علينا، في ذلك الوقت، أسمها أرض الجنوب، وكانت صبا تسميها، "فلعسطين". تتلعثم بفلسطين حين تنطقها لفوبيا الخوف، من الطيران المغير، ومن مشهد جثث الأطفال العالقين، بشظايا القنابل العنقودية.
 وكلما شدت بنا السيارة صعودا في طريق الرادار، إلى النبطية، وبيت صديقي إبراهيم، كلما شدت صبا في البكاء، حتى الإنهمار.
 وصلنا إلى دار صديقي، وكنت أسلم على الأحبة بذراع، وأجر صبا خلفي بذراع، كنعجة، يسوقها صاحبها، إلى الذبح وهي تريد التفلت منه.
 كانت تبحث تراب النبطية بمقدمة صندلها الصغير. تحفر به الأرض حفرا. كانت تختبئ خلفي. لا تريد أن يرى وجهها إحد، من شدة الهلع. 
 كانت فلسطين مروعة لها:  سماء مزروعة بالطائرات، تروح وتجيء في أكثر من مئة وخمسين طلعة يومية. وشاشات تنهمر بالمطر الأحمر. وتنهمر أيضا بدموع الأمهات ودماء الصغار والكبار. كل ما بعد بيروت، فلسطين، وطيران إسرائيلي مغير.
 سهرنا تلك الليلة، أمام الدار.  وخلفي صبا لا تأبه لأحد. ترتجف من شدة الهلع.
 أشار صديقي، تشاركه "أم علي"،  إلى تلة بعيدة. دلني على مصباح عظيم يضيء التلة البعيدة. سمعت لأول مرة ب"تلة سجد". قال: إنه لم يبق من سجد، إلا دشم تطل منها فوهات الرشاشات والمدافع. تابع يقول: ستسمع بعد قليل، بعض الرمايات. سترى الحرائق بأم عينيك،  تشتعل في الغابات.
  وإنهمرت صغيرتي، بسنواتها الست، لإنهمار القنابل  في كل الجهات. 
 كنت أشعر أن عظامي تتقضقض، بتقضقض عظام صغيرتي. وصديقي يرى وجه الصغيرة المرتجفة، ولا يابه أن يرى وجهة القنبلة المشتعلة، تضيء سماء النبطية وسماء تلة سجد، في تلك الليلة المقمرة. فقد إعتادها.
  تذكرت الآن كل ذلك، دفعة واحدة: مشهد السماء والبكاء. ومشهد الذعر في عيون أطفال الجنوب، ومشهد الدماء.
 تداعت أمامي فلسطين، في يوم نكبتها، في الخامس عشر من أيار العام- 1948. يوم حدثني محمود درويش، في مكتبه في محلة "السادات" برأس بيروت، عن هجرته من قريته :البروة"  إلى الحدود اللبنانية. كيف نام ليلته مع أهله، تحت الشجرة في سفح التلة، البعيدة عن قرية "البروة".
 تذكرت "يوم القدس العالمي"،  ليلة الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، من كل عام. يستحث أهل فلسطين وأهل القدس على الصمود، في وجه الإستكبار الصهيوني والعالمي.
 تذكرت تلة سجد، وأنا بصحبة دليل المقاومة، في معرض و متحف المقاومة في "مليتا"، أتجول بالمناظير تحت الدشم المحررة، على تلة سجد، بعد التحرير، في يوم التحرير بعد حين.
  كنت "زحفت" مع عائلتي في الأحد الاول من التحرير، في العام 2000.
 كنت يومها: عائلتي وأنا: بصحبة شاب من كفرشوبا/ العرقوب.  زرنا أهله، لمعرفة أولادي به في أوكرانيا. درسوا معا هناك الصيدلة والطب. زرنا شبعا ووقفنا على مزارعها. وزرنا الخيام، وسجنها. وزرنا راشيا الفخار  وحاصبيا، وغرفنا الماء بأيدينا من مقاصف نهر الحاصباني. وغسلنا وجع الإحتلال وعار الجبناء، ودنس الأذلاء من الأعداء والعملاء، وعدنا إلى بيروت، نسطر في ذلك تواريخ البطولات لموتانا من الشهداء.
 كيف ننسى حرائق الاجساد بنيران العدو الإسرائيلي، وسياط العملاء، ترسم على جدران الزنازين، وجوه الذين غيبهم الموت أو  القصف أو الإبعاد.
  "تابعوا موتنا"، قال لنا الشاعر المير طارق آل ناصرالدين، في ديوان له، كتبه منذ سنين. 
 كنت أتابع معه، الموت الجنوبي والموت الشمالي، وموت البقاع وموت الجبل وموت المدن،  وموت بيروت/ العاصمة، في جنازة واحدة.
 كنت أتابع ترحيل منظمة التحرير، من مرفأ بيروت. وكنت أتابع مشاهد  الجثث المرصوفة في صبرا وشاتيلا. 
 كنت أقف على مجزرة قانا، وأتلو الفاتحة عن أرواح الشهداء، في روضة الشهداء في قانا. كنت أرى السيد على الأجران،  يغمس قطرة من دم المقاومين الأبطال، ويحول الماء إلى نهر من دماء، يسقي نفوس العطشى، إلى الشهادة.
  الخامس والعشرون من أيار، درب مقمر تحت تلة سجد، وخلفي الذكريات والبطولات والأحزان،  والأمجاد، والفرح العابر إلى البكاء، كل يوم.
 الخامس والعشرون من شهر أيار، كل عام،  تلة بصورة قرية أعدمها الإحتلال، أسمها "سجد"، لم تبق لها غير مئذنة.  فأحيتها المقاومة، عاصمة للشهادة والشهداء، تؤذن بالعصر،  وأنا أمام دارة صديقي إبراهيم في اطراف حبوش والنبطية، ليلة أقمنا سجدة "تحت تلة سجد".

 د. قصي الحسين
 أستاذ في الجامعة اللبنانية

المصدر: وكالات+إضاءات