كتب الكاتب ابراهيم ابو عتيله"
هل يتم تهريب الخلود وهل يتم تهريب الحياة ، سؤال طرحه أسير فلسطيني يقضي حكماً بالسجن لعدة مؤبدات في سجون العصابات الصهيونية الجاثمة على أرضه يخاطب ذاته متيقناً من أن الصهاينة يريدونه اسيراً ذليلاً معزولاً عن شعبه وأسرته وأرضه ، حين زجوه في زنزانة لا يرى معها النور ، علهم يجتثوه من أرضه ويقتلعون جذوره الراسخة فيها عميقاً كعمق الدهر، كان محور تساؤله ينصب على كيفية استمراره في المقاومة وما هو الطريق إلى ذلك ، وهو في زنزانته المقفرة الموحشة ، التي ستأخذ منه بقية عمره ، ومع معرفته الكاملة بأنهم حين وضعوه في السجن ، فإن تفكير أعداءه ينحصر في سلب حقه في المحافظة على أرضه التي ورثها عن أجداده ، فبالقضاء عليه لن يتمكن من توريث هذا الحق لأبناءه ، هم على دراية تامة بأن الوقت لم يسعفه لإنجاب طفل يورثه الأرض ليحافظ على الحق في وطن تحتله هذه العصابات التي جاءت من كل أصقاع الأرض ، كان أسيرنا قد تزوج حديثاً حين قامت عصابات الصهاينة باعتقاله ... كان عريساً لم يمض على زفافه أكثر من شهر حين جابه ظلم الاحتلال وقسوته حيث قاومهم بكل ما أعطي من قوة ، وحين حاصرته عصابات المحتلين وضيقوا عليه الخناق إلى أن تمكنوا من اعتقاله فقد كان همه حينذاك مقاومتهم أكثر من تفكيره بالاستمتاع بزواجه والسعادة مع عروسه ، فكر هذا البطل المقاوم طويلاً بكيفية المحافظة على الحق في الأرض وبالطريقة التي يخلد بها ذكر أجداده .. لم تثنه الظروف ولم تعوزه الحيلة فها هو يقوم بما لم يقم به أحد من قبل ، وضع خطة لكسر القيد والهروب من السجن رغم شدة حصار جلاديه له ومحاولتهم القضاء على كل أثر له في الحياة ليتمكنوا من توطيد وجودهم على أرضه السليبة وتحقيق حلمهم المزعوم ...
فكر طويلاً وتشاور أسير الحرية مع زوجته العروس طويلاً التي لم يسعفها الوقت لإنجاب وريث له ، استشار في خطته رفاق له في المقاومة وهاهو يقوم بما لم يقم به أحد من قبل ، لقد قام بمعاونة زوجته وضمن خطة مرسومة جيداً يقرها الدين والمجتمع بتهريب عينات من سائله المنوي ، وما أن حصلت عروسه منه على سائله المنوي وتركته قابع في سجنه حتى توجهت للمركز الطبي المتخصص ليصار إلى تلقيحها اصطناعياً ، لقد حملت ، وها هو الأسير الآن أب لطفل .. لقد جاء سفير الحق وسفير الحرية لقد جاء إلى الدنيا فرخ الفينيق ، لقد أعاد بعمله وزوجته حقه في الإنجاب رغماً عن جلاديه .. وهاهم رفقاء له يكررون ما قام به ، جيل جديد رأى النور لتتوهج في قلوب الأسرى شمس المشاعل ، فعشق الوطن والسعي للحرية أسمى من الروح وأغلى من والدم ، لا يهمهم إنكار سلطات الاحتلال لأبنائهم بحجة أن هؤلاء الأبناء قد ولدوا من حيامن مهربة ولم يكونوا مسجلين قبلاً في سجلات آبائهم ، فهذا لن يغير من الأمر شيئاً فطائر الفينيق بدأ بالتحليق والطيران في سعيه وبحثه الدؤوب عن الحرية لوطنه وشعبه وحقه في أرضه وموطنه .
لقد كانت طريقته في مقاومة الاحتلال طريقة مبتكرة في سعيه المستمر لنيل الحرية ، وإن لم يكن قادراً على تحقيق حريته بجسده وروحه فيكفيه أن يورث روح ونبض المقاومة لفلذة كبده الذي سيعي جيداً منذ ان ترى عينيه النور أنه إبن المقاومة ، وإنه هو من كسر القيد قبل أن يصبح روحاً أو حتى جسداً .... سيفخر بما فعل ابوه وسيحتفي بأمه التي احضنته في أحشائها لترضعه بعد ذلك حليب الحرية ...
لقد سجل أبواه إبتكاراً جديداً في عالم المقاومة ، إبتكار فلسطيني بإمتياز لم يسجله أحد من قبل ولم يخطر على بال أحد قبلهما ، توالت بعد ذلك ومن كافة المعتقلات والسجون الصهيونية عمليات المقاومة من هذا النوع ، فهاهم الأسرى يقاومون جلاديهم ويزرعون بذرة البقاء ويتمتعون بالتعلق بالحق والحرية .
تسابقنا كعرب إلى موسوعة غينيس بأكبر منسف وأكبر صحن حمص وأكبر كبسة وأكبر قرص من الفلافل ولهث وراءنا غينيس ليضمن ذلك ضمن موسوعته التي ستلقى رواجاً لدينا ، ولكن غينيس حتماً لن يفكر بتسجيل هذا الابتكار ، لسان حال مناضلينا يقول لا نريد براءة إختراع من أحد ، فنحن على استعداد لوضع طريقتنا واسلوبنا في مقاومة الاحتلال بين يدي كل من يقاوم من أجل الحرية ولكل مقاوم يرفض القهر والاستعباد والسجن ولكل من يسعى لتخليد مجد شعبه .
ترى ماذا فعلت سلطة أوسلو وأختها اللدود حماس لتمجيد هذا الاسلوب من المقاومة ، أم أن المجال لديهم لا يتسع لاحتضان ورعاية جيل الثورة هذا ، فهم لا يلتفتون لمثل هذا الأمر في ظل انشغالهم بتبادل التهم وكبت الحريات ، لا يستطيعون أن يدركوا أن هذا الجيل الذي ولد بهذه الطريقة سيكون جيل الأمل وجيل النصر المنتظر ، فهو كالشجرة التي تنبت من خلال الصخر والتي تخرج شامخة في تطلعها للشمس كما يتطلع هو لنور الحرية ... فتحية لأسرى الشعب الفلسطيني الذين قهروا الظلم والاستعباد وحطموا القيد وشعارهم في ذلك :
وطني يعلمني حديد سلاسلي
عنف النسور ورقة المتفائل
سدوا علي النور في زنزانة
فتوهّجت في القلب شمس مشاعل
ابراهيم ابوعتيله
عمان – الاردن