أمس، خرج الوزير السابق زياد بارود على الشاشة ونطق ببعض الكفر رغم شخصية الرجل الأقرب إلى النظافة الفكرية والموضوعية، حتى قبل الأمس على الأقل؛ فتوجب مناقشة مشروعه في اللامركزية الإدارية بكثير من التحليل لتطور النظام في هذا البلد، وفي هذه المنطقة، وعبر التاريخ... من نظام المتصرفيتين، إلى الترويكا، إلى الستة الكبار، إلى الإنهيار الكبير... وصولا اليوم إلى التعددية السائرة بخطى ثابتة نحو الدولة الفاشلة في احسن الأحوال، أو إلى حروب أهلية متعددة متنقلة بين المناطق حسب الظروف وحسب التوقيت وحسب التأثير الإقليمي والعالمي على بلدنا، في الأحوال السيئة التي يبدو أن الغلبة لها هذه الأيام...
في عصر الانترنت، سواء شاء المرء أم أبى، تصله آخر المواضيع التي ترتبط بآخر ما شاهده هذا المرء أو ناقشه داخل هذا الفضاء الافتراضي...
فكان اللقاء بين الإعلامية بثينة عليق ونائب حزب الله الدكتور علي فياض مهماً جداً إلى درجة أن لا يريد المرء ترك كل شيء ومحاولة الاستماع الى تبريرات الدكتور، كما تبريرات حزب الله في كل ما يتعلق بسياسة هذا الحزب وممثليه في الحكومة، وفي لجان دفن الموتى النيابية، وفي الندوة النيابية ذاتها مع كل ما يتفرع عنها من لقاءات هي أقرب إلى "طق الحنك" بانتظار الاعلان الرسمي عن وفاة الميت...
في فرنسا أو المانيا أو بلجيكا يخرج الكثير من السياسيين ليتحدثوا في أمور الساعة التي عادة ما تكون محدودة، فيستطيع المرء مناقشتهم جميعا في مقالة أو مقالتين جامعتين...
أما في لبنان، حيث يخرج الطفل من بطن أمه يتحدث في السياسة والاجتماع والفلسفة، فيخرج علينا الكثير الكثير الكثير جدا من السياسيين كل يوم وكل ساعة وفي كل الاوقات ليتحدثوا في كل الأمور الكونية من انفجار آخر نجمة في الكون الذي نعرفه، إلى مايحدث في تايوان أو أوكرانيا أو كازاخستان أو حتى اصغر جزيرة في اصغر بحر قرب محيط ما أو قارة ما قد لا يعلم بوجودها ٩٥٪ من سكان الكوكب... يخرج هذا السياسي اللبناني أو ءاك ليتناول هذا الموضوع أو ذاك فيضيع هو نفسه، ويُضيًع معه في الوقت عينه كل هذا الشعب البائس الذي أرادت حكمة إلهية أن تخلقه في بلاد الارز...
يحتار المرء من مقارنة الوزير بارود لهذا البلد، ولنظام هذا البلد، مع بلاد عريقة عندها من المقومات لقيام دولة، ووجود نظام ما عندها، في حين أن بلد الأرز لا يزال يعيش في عصر الجاهلية القبلية العشائرية...
يقارن الوزير بارود في حديثه عن اللامركزية وعن الفيدرالية بين لبنان وبلاد لم يحكمها في المئة سنة الأخيرة أي لص أو مجموعة من اللصوص... ولم يتربع على عرشها أي تاجر دين من أصحاب الشهوات المعلومة والمستترة على حد سواء...
يريد الوزير بارود إقناعنا بأن اللامركزية سوف تعوض الناس عن غياب المركزية وينطلق في هذا عبر مثل ساطع هو البلديات التي تتفوق في لبنان على الأحزاب في الشوفينية والطائفية والعنصرية والمناطقية وكل ما يمكن أن يخطر على بال من موبقات ما حصل وما يحصل في لبنان...
أكبر مثل على تلك الارتكابات هو كبرى تلك البلديات، بلدية بيروت وسوليدير وأملاك بيروت البحرية والأبنية التراثية وكنوز بيروت تحت الارض، وفوقها الخ...
ألا يتفوق الفساد اللامركزي على الفساد المركزي الذي نعرفه ونراه؟
الوزير بارود لا يريد رؤية الحقيقة وهي أن المأساة ليست مركزية النظام بقدر ما هي في طائفية النظام وفي العنصرية المناطقية والعنصرية المذهبية وحتى العنصرية في اللهجة وفي الأصول التاريخية بين الفينيقيين والعرب وغيرهم من الأقوام التي مرت على هذه الأرض...
السؤال الواجب طرحه هو هل أن اللامركزية قادرة على معالجة كل الآفات البنيوية التي تطبع النظام الحالي القائم، أم هي مجرد إعادة توزيع ادوات النهب والفساد على الطوائف والمناطق...
ثم هل العودة إلى دستور الطائف هي عودة إلى نص قرآني او إنجيلي لا يمكن المس به...
يا جماعة ثلاثة عقود مرت على محاولة تطبيق نظام الطائف في لبنان أدت إلى هذا الإنهيار الكبير الذي نعيشه، فهل من دليل أكثر سطوعا على عقم هذا النظام وعقم الأحزاب والتيارات التي تتبناه...
من هذا العقم تحديدا ندخل الى مناقشة الدكتور فياض في معظم ما طرحة مع الاخت بثينة خلال أكثر من ساعة ناقش فيها الدكتور أكثر من أمر دون تحديد موقف يجيب على أسئلة جوهرية من مثل لماذا لم يتم فرض الكابيتال كونترول مساء ١٧ تشرين ٢٠١٨...
أو لماذا تم السماح بالقضاء على برنامج الإنقاذ لحكومة الرئيس حسان دياب دون طرح بدائل أكثر جذرية...
أو لماذا لا نرى حتى اليوم برنامجاً اقتصادياََ واضحاً لحزب الله لكيفية الخروج من الأزمة...
أكثر من ساعة، تحدث خلالها الدكتور علي فياض، لم يتبن خلالها أي موقف أو مشروع واضح لأكبر الأحزاب اللبنانية على الإطلاق مما جرى ومما يجري...
في المقالة السابقة، تحدثت عن إقامة نظام بأربعة ابعاد ونقطة ارتكاز أو إنطلاق...
يبدو أن حزب الله لا يزال يعيش في نظام ثلاثي الأبعاد...
طيلة سنتين، لم ينتبه الحزب إلى عامل الوقت...
الوقت... الوقت الذي يمضي هو البعد الرابع الذي تعيش خارجه الأمتين العربية والإسلامية...
لقد انتقل العالم الذي حولنا إلى أنظمة باكثر من أربعة أبعاد بعد نظرية أينشتاين في النسبية وصولا إلى نظريات تعدد الأكوان والعوالم... بينما لا يجد الدكتور فياض أن الحزب أهدر طاقات في غير محلها للمحافظة على نظام ودستور غير قابلين للحياة...
تحدث الدكتور عن مراعاة التيار العوني علنا، وسوف يجد المرء أكثر من مراعاة لتيار المستقبل أو تيار العزم أو غيره... وكل تلك المراعاة كانت على حساب المبدأ...
التحالف الاستراتيجي الذي يتكلم عنه الشيخ نعيم قاسم يجب أن يكون على أساس واضح هو أي لبنان نريد...
وكيف نبني الدولة القوية العادلة وليس الإستمرار في متاهة مراعاة الحلفاء والخصوم والدوران في حلقة مفرغة من عدم وضوح الرؤية أو على الاقل، عدم محاولة سبر أغوارها علنا ومع الناس...
أكثر من ساعة مع الدكتور فياض كانت خلاصتها أن حزب الله لا يزال يعيش براغماتية سياسية كل يوم بيومه...
منذ أن أدرك حزب الله أن برنامج إقامة جمهورية إسلامية في لبنان هو في حكم المستحيل، وهو يعيش هذه البراغماتية ولا يريد أن يتعب نفسه بإيجاد برنامج واضح يستطيع ليس فقط جذب الشيعة وحدهم إليه، بل كل المسيحيين والسنة وغيرهم على أسس وطنية واضحة لا تتزلف لسعد الحريري، ولا لميشال عون لاكتساب قلوب أمثال مصطفى علوش أو ناجي حايك...
أيام السلطنة العثمانية، لعب المسيحيون العرب أهم وافضل الأدوار التي حفظت لغتنا وحضارتنا وأسست لقيامة هذه الأمة... من أمين الريحاني إلى ميشيل عفلق إلى جبران خليل جبران... الخ
مع التحرر، لعب كبار رجال العروبة من السنة العرب أهم الأدوار لقيامة أمة عربية واحدة من المحيط الى الخليج... من احمد عرابي... إلى بن بيلا إلى بومدين وصولا إلى عملاق الأمة، وقائد ثورة يوليو ٥٢ والاشتراكية العربية والإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الثروة عبر إعادة توزيع الاراضي وبناء السد العالي وتأميم قناة السويس وطرد بريطانيا وفرنسا من كامل الوطن العربي... جمال عبد الناصر...
هل يُعقل أن يعجز حزب الله، وريث السيد عبد الحسين شرف الدين ومؤتمر وادي الحجير وحامل رسالة مدنية الدولة مع السيد موسى الصدر والأخوة الإنسانية عند السيد محمد حسين فضل الله، وحامل لواء أعظم الأئمة وأعظم الشهداء على مدى قرون...
هل يُعقل أن لا يرى عند المسيحيين والسنة غير ميشال عون وسعد الحريري ونجيب ميقاتي...
أين ذهب كبار القوميين العرب، وكبار الثوريين والأمميين الذين لا اريد تسمية أي واحد منهم حتى لا أحشره في مذهب أو طائفة وهو أكبر من هذه القوالب المتحجرة كلها...
هل يعجز حزب الله عن قراءة التاريخ في لبنان بعد أن أجاد قراءته في العراق وسوريا واليمن... وبالأخص في فلسطين..
عفوا دكتور فياض... إذا صار لبنان بلدا فاشلا... سوف تفشل الأمة...
وإذا فشلت الامة، سوف يتحمل حزب الله ومحور المقاومة هذا الوزر...
التاريخ لا يرحم...
الزمن لا يرحم...
الوقت لا يرحم...
نريد ردودا أكثر تحديدا لما جرى، ولماذا جرى ما جرى... كما نريد برنامجا واضحا لما يحب أن يجري...
