كتبت د, ناديا خوست
ثقافة
كتبت د, ناديا خوست" خطة التدمير الشامل
5 شباط 2022 , 10:30 ص

من يقرأ الباحث الكبير أندريه فورسوف يرفع رأسه من بحر التفاصيل، وينظر إليها من مرتفع. يرى الظواهر المتباينة المتنافرة متواصلة متكاملة. ويتبيّن أن صيغ الفوضى الخلاقة، النسوية، الحريات الجنسية، حرية الإجهاض، الترويج للتحول من جنس إلى آخر، الزواج المثلي، بنطلون الجينز الممزق، عبَدة الشيطان، والجمعيات غير الحكومية، مشاهد في مسار. يبدو له أيضاً أن استعادة الذكريات، وقصص الحب، والحنين إلى الهوية المعمارية، وعرض الملابس التقليدية، والعودة إلى الأغاني والقصائد الكبرى، وقراءة عمالقة الأدب الكلاسيكي، دفاع عظيم عن الثوابت والكنوز والتقاليد التي أسسها البشر، ومقاومة نبيلة تتصدى لتدمير المجتمع الإنساني.

فورسوف مفكر عالم روسي كبير، يمكن الوصول إلى بعض أبحاثه من الإنترنت. يرى أن الرأسمالية استنفدت نفسها. وصعدت دول ذات اقتصاد قوي وطموح سياسي تواجه الولايات المتحدة ومجموعتها. إذن، لا مجال لاقتسام العالم المقتَسم. لكن الممكن أن تأكل الطبقة العليا الثرية طبقة أخرى في مجتمعها. لذلك وضعت في مؤتمر سانتافي الذي نظمته وكالة الأمن القومي الأمريكي، سيناريو تدمير الطبقة الوسطى، "كتلة الأعمال الصغيرة في العالم التي تملك مجتمعةً ما يعادل رأس المال الكبير". يعني تجريد الملاكين الصغار من أملاكهم. لكن كان لابد لتنفيذ ذلك من صاعق كبير، فكانت جائحة كورونا. ضرب الإغلاق الكبير أعمال الطبقة الوسطى. دمرت مثلاً 70% من مطاعم باريز. أدارت ذلك العمل الواسع منظمة الصحة العالمية التي يمولها صندوق غيتس وصندوق روكفيلر، وهي من "أكثر المنظمات في العالم فساداً". وشاركت فيه مؤسسات الإعلام الكبرى العالمية، "لأن العامل النفسي المعلوماتي من مجالات الحرب للاستيلاء على الثروة". وانعكس ذلك الصراع في مساحة القيم الأخلاقية والثوابت الوطنية والحرب على العائلة التقليدية التي يسهّل غيابها التحكم بالفرد.

يميز فورسوف نوعي العولمة: العولمة التي تُبقي مؤسسة الدولة، شرط أن تديرها مؤسسات البنك الدولي وبنك النقد والتجارة العالمية. والعولمة المفرطة التي تدمّر الدول لتقودها بعض شركات كبرى. هنا نصل إلى ضرورة تقليص سكان العالم، والانفصال بين نخبة تعيش 120سنة على طعام صحي في بيئة نظيفة، وفصيل آخر من البشر يعيش على الحشرات في بيئة ملوثة. ويسهّل ذلك ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة. تؤكد تحليل فورسوف رؤية شفاب، مدير دافوس، يعني مدير القمة الاقتصادية العالمية الرأسمالية، الذي يرى تقليص سكان العالم. لذلك نلمح في مظاهرات الاوروبيين اتهام من يديرون الحياة الاوروبية بأنهم مجرمون.

يقف في وجه خطة التدمير الشامل، الصين كقوة اقتصادية سياسية، وروسيا، الأضعف اقتصادياً. وقد أشار فورسوف في مقالات مبكرة إلى ضرورة تحرر روسيا من علاقتها بالاقتصاد الغربي. لكننا يمكن أن نضيف اليوم إلى الصين وروسيا: ايران وفنزويلا وبعض بلاد أمريكا اللاتينية وبعض البلاد الآسيوية وكوريا الشمالية.

في هذه اللحظة، في مستوى قوة الخصم العسكرية، ومستوى الأسلحة المدمرة، تصعب الحرب العسكرية الشاملة. لكن يمكن الاستنزاف بحرائق هنا وهناك. وذلك ما نلاحظه في الضغط الأقصى على روسيا، وأحداث كازاخستان، والحرب الإعلامية عليها.

نستنتج من تحليل فورسوف:

أولاً، أن المصائر في الكرة الأرضية مترابطة. لا يمكن الهرب منها فردياً بالهجرة، ولا النجاة العامة منها بما يسمى النأي بالنفس. فلبنان الذي رفع هذا الشعار نُفذت فيه خطة التدمير الشامل بكارثتين كبيرتين: تفجير مرفأ بيروت، ونهب مصارفه. ولا نجاة إلا بالمقاومة الفردية والجماعية، وحماية الوجدان بوعي مكاننا في الصراع العالمي، وأن الانتصار واجب وطني وإنساني.

ثانياً، بلاد الشام والعراق من مساحات التدمير الشامل. لذلك مُنع العراق من تنفيذ الاتفاقيات مع الصين، ولعب الخليج بنتائج انتخاباته، وأفقر شعبه وهجّر شبابه. واجتهد رجال الغرب فيه لمنع طريقه إلى الشام والبحر.

ثالثاً، نخمّن أن الفئة التي اغتنت من موقعها السياسي، وابتعدت عن شعاراتها، مبررة لنفسها بأنها تحررت من عبودية النصوص، مؤهلة لتنفيذ خطة التدمير الشامل بإلغاء الطبقة الوسطى وتقليص عدد السكان. بعض الإشارات إليها سياراتها الفخمة، حفلاتها في المطاعم، وعمليات تجميل نسائها.

رابعاً، يحمل الخليج بعض مهمات تنفيذ خطة الدمار الشامل، بتمويل الحرب على سورية والعراق، والتدخل في لبنان، وبالإغراء والضغط. وفي هذا السياق يسوق الجامعة العربية، ويرمي قضية فلسطين، ويستمر في الحرب على اليمن.

خامساً، رفض الوجدان السوري تخفيض الدعم، الذي تفيد منه الطبقة الفقيرة والمتوسطة، مؤكداً وعيه السياسي. وتوجس السوريون من أن يؤسس النهج الاقتصادي الظروف التي تجعل الحياة صعبة، والشروط ملائمة لتهجير الطبقة الوسطى ومختصيها وشبابها. ونشروا صورة وليمة المسؤولين في شيراتون ليظهروا بُعد هؤلاء عن الشعب. لا يُغضب الناس قلة الدعم إذا كانت المساواة شاملة. لكن السوريين تفرجوا، طوال الحرب، على انحطاط المنشقين الذين كانوا مسؤولين حزبيين وحكوميين تصدروا الحياة العامة. وهزّ ثقتهم بمن بقي أن المناصب مكافآت وامتيازات، وليست لخدمة الناس. لم ينزّهوا غير الجيش السوري الذي قدم زهرة شبابه في حرب قاسية، ورئيس الجمهورية الذي وقف بصلابة في أيام مظلمة ملتزماً بالوجدان السوري في الدفاع عن الوطن والموقف من العدو والصديق. عدا هذا المقدس، يمكن أن يفحص كل شخص مسؤول وينقّب في سلوكه. وحق السوريين أن ينفروا من الأداء الحكومي المترفع الذي يرى الشعب متسولاً، لا مالك الثروة الوطنية. حقهم أن يتساءلوا: هل يجب أن تكون القضية الآن رفع الدعم، أم مطاردة الفساد؟ ويتوجسوا من تدمير الطبقة الوسطى.

سادساً، يمكن أن ينجو السوريون من خطة التدمير الشامل، لأنهم يكنزون خبرة صناعية وحرفية رفيعة، وإمكانيات زراعية، وتاريخ طبقة وسطى ينتمي إليها الكتاب والفنانون والسياسيون. إذا سهّلت الشروط الإنتاج الصناعي والزراعي، واختير لإدارة الاقتصاد سياسيون مختصون وطنيون، لا تكنوقراط يستوي عندهم الإنسان والبرغي.

سابعاً، الدفاع عن التراث الوطني المعماري وعن الصناعة الوطنية، التطوع لمعالجة الفقراء، الحنو على الأصدقاء، حماية علاقة القربى، كلها مقاومة نبيلة تدافع عن المثل والعلاقات التي شيدتها الإنسانية، وتواجه العولمة الفظة.

ثامناً، المعنويات مسألة كبرى. بالمعنويات قاوم جنودنا المحاصرون في حلب. بالمعنويات صمدنا في سنوات الحرب القاسية يوم كان المصير على كف عفريت. لذلك تسدد الحرب الإعلامية العالمية على الوجدان.

لو كنت ذات صلاحية لوزعت أشرطة أغاني فيروز وعبد الوهاب وأم كلثوم مجاناً مع الخبز! ولطبعت الأعمال الكلاسيكية الأدبية الكبرى ونشرتها مجاناً في المدارس والجامعات! لنظّمت حفلات موسيقية في الحدائق الكبيرة والصغيرة! ولنصبت نسخاً من تماثيل الحضارات السورية في أرض معرض دمشق الدولي، وجعلتها حديقة عامة تقرأ فيها القصص، وتمثل المسرحيات، وتعزف الموسيقى. ولداويت بالحنان الكآبة التي يشعر بها الأنقياء، وقدّرت حدسهم السليم، وخوفهم على الطبقة الوسطى التي يسدد إليها التدمير الشامل، ولقرأت لهم قصص الحب الناعمة. 

المصدر: موقع إضاءات الإخباري