في مقالة الأسبوع الماضي ، جرى التطرق إلى السياق العام للسياسة الخارجية الباكستانية ، وحيث ترتسم خطوط عريضة حمراء تجاه الهند وروسيا ، مما يجعل الإقتراب منها يمهد لخروج الجيش من ثكناته والسيطرة على مقاليد السلطة ، لكن خطا احمر ثالثا ، يتمثل في بنية العداء الباكستاني التقليدي لإسرائيل ، ينبغي مراقبته للوقوف على التحولات الناشئة مع مرحلة ما بعد عمران خان .
حين وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر 1947، وقف ظفر الله خان أول وزير خارجية لباكستان في هيئة الأمم ليقول ويسأل مثلما تورد " دائرة المغتربين " التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية " ما هي غايتكم من إنشاء دولة لليهود ؟ إذا كان الدافع إنسانيا فلماذا تقفلون حدودكم أمامهم ؟ لماذا تريدون أن تسكنوهم في فلسطين وتساعدوهم على إقامة دولة لهم ليشردوا مليون عربي" .
بعد خمس وثلاثين سنة على قرار التقسيم ، نشرت مجلة " العربي " الكويتية (1 ـ 6 ـ 1983) مقالا للدبلوماسي المصري عبد الحميد عبد الغني ، (كان يوقع مقالاته بإسم عبد الحميد الكاتب ) استحضر فيه خطاب ظفر الله خان في الأمم المتحدة ، حيث قال " ليس في ميثاق الأمم المتحدة ولا في قواعد القانون الدولي ، ما يبيح للأمم المتحدة أن تفرض على شعب من الشعوب بأن يقسم نفسه ويوزع أرضه قطعة هنا وقطعة هناك " .
وبحسب مقالة ( 4 ـ 3 ـ 2004) لأسعد عبد الرحمن القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في صحيفة " الإتحاد "الإماراتية " كان النقاش في الأمم المتحدة حول مسـتقبل فلسطين في مطلع 1947 أول فرصة لباكستان لتشكيل سياستها الخارجية كدولة ناشئة ، ومن الإنصاف القول إنها عارضت منذ البداية تقسيم فلسطين ، إذ قال وزير خارجيتها حينئذ ظفر الله خان إن الأمم المتحدة لا سلطة قانونية أو قضائية لها لتقسيم فلسطين ".
هذا الموقف الباكستاني المبكر ، سيشكل قاعدة أساسية لسياسة خارجية باكستانية تقوم على نبذ الإعتراف بإسرائيل ، بل والمشاركة في قتالها أحيانا كما سيظهر في سياق هذه المقالة ، إنما قبل تناول ذلك ، من مقتضيات التحليل المرور على مفاصل تاريخية وسياسية كان لباكستان فيها مواقف حادة تجاه الدولة العبرية :
في عام 1954، رفضت باكستان مشاركة اسرائيل في المؤتمر الأسيوي ـ الأفريقي ، وحافظت على هذا الموقف في "مؤتمر باندونغ " عام 1955 الذي انعقد في اندونيسيا ، واستنادا إلى ما تورده " الموسوعة الفلسطينية " انه خلال حرب الخامس من حزيران / يونيو1967 " بعث الرئيس الباكستاني محمد أيوب خان برسائل إلى رؤساء دول المواجهة العربية مع إسرائيل قال فيها : أرجو أن تشعروا بملء الحرية في أن تطلبوا منا ما تحتاجون إليه من مساعدات مادية وسنبذل كل ما في وسعنا لتقديمها ".
عند هذا المنعطف المرتبط ب " حرب الأيام الستة " ، تنفتح مفاصل المشاركة الباكستانية في الحروب العربية ـ الإسرائيلية على مصراعيها ، وعلى ما يقول كومارا سوامي ، أستاذ شؤون الشرق الأوسط في جامعة جواهر لال نهرو الهندية ، في دراسة نشرها مركز " القدس للدراسات السياسية " بتاريخ 8 ـ 6 2005 " أن طيارين باكستانيين كانوا يساعدون سوريا وبشكل فاعل أثناء حرب / تشرين الأول/ أكتوبر عام 1973" .
وجاء في تقرير (17 ـ 4 ـ2017) منشور في صحيفة " العربي الجديد " الصادرة في العاصمة القطرية الدوحة " في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 لم تكتف باكستان بنشر قوات للمساهمة في حماية مدينة دمشق فقط ، بل دربت أيضا سوريين، كما أمنت أيضا للجيش السوري دعما بحريا، إضافة إلى الطيارين ، وكان الباكستانيون لا يتقنون من العربية سوى ما يلزمهم للصلوات والأدعية ، ومع ذلك أسقطوا عشر مقاتلات إسرائيلية في حربي 1967 و1973، وعلاوة على ذلك ، منعت دورياتهم الهجومية الهجمات الإسرائيلية على مدن ومنشآت أردنية وسورية ولبنانية ومصرية ".
وفي ذكرى حرب العام 1967، كتبت وكالة " أنباء الأناضول " التركية (6 ـ6 ـ2021) فقالت :
" رغم أن الحرب التي يصفها العرب بالنكسة ، دارت بين إسرائيل و مصر وسوريا والأردن في يونيو/ حزيران 1967، إلا أنها تحمل ذكريات لبطولات القوات الجوية لدولة خامسة لم يكن لها دور مباشر في الصراع ، ولا يزال العرب يتذكرون بطولات طيارين من سلاح الجو الباكستاني الذين أسقطوا عدة طائرات إسرائيلية دون أن يخسروا أي من طائراتهم ، فسيف الله الأعظم ، الطيار المقاتل الباكستاني الذي توفي في يونيو/حزيران 2020، أسقط بمفرده ثلاث طائرات مقاتلة إسرائيلية خلال الأيام الثلاثة الأولى من الحرب ، وفي شهادة للعميد الجوي المتقاعد كايزر طفيل، مؤلف ثلاثة كتب عن تاريخ القوات الجوية الباكستانية ، فإن تلك القوات أسقطت ثلاث طائرات إسرائيلية ، جميعها بواسطة الضابط الطيار سيف الله الأعظم بين 5 و7 يونيو 1967".
وكشف مساعد وزير الخارجية المصرية الأسبق ، حسن هريدي في حوار تلفزيوني أوجزت مضمونه صحيفة " الوطن " القاهرية في السابع عشر من شباط / فبراير2021 " أن باكستان قدمت مساعدات إلى مصر لا يعرفها الرأي العام ، منها مساعدات خلال حرب أكتوبر 1973، ومصر تقدر هذه المساعدات في الحرب المجيدة " ، ووفقا ل " صحيفة " الدستور " " المصرية في عددها الصادر بتاريخ 13 ـ 6 ـ 2021 " وقفت باكستان إلى جانب مصر في حرب أكتوبر 1973 حيث قامت بإيواء بعض السفن الحربية المصرية " .
ماذا عن باكستان و جمال عبد الناصر؟
حول ذاكرة العلاقات المصرية ـ الباكستانية ، نشرت " الهيئة العامة للإستعلامات " المصرية (12ـ 11 ـ 2017) أنه " مع قيام ثورة تموز / يوليو 1952 ، ساندت باكستان الثورة وأيدت سعيها للحصول على الاستقلال ، وكان لمصر دور بارز في وقف الحرب الهندية – الباكستانية في عام 1965 ، حيث أرسل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 8 أيلول / سبتمبر من العام نفسه طلبا لحكومتي البلدين بوقف فوري لإطلاق النار " .
وإذ شهدت العلاقات بين القاهرة وإسلام آباد فتورا وجفاء عام 1956، إلا أنها سرعان ما عولجت ، وحين زار عبد الناصر باكستان ، استقبله 200 ألف شخص في مدينة لاهور مثلما ذكرت صحيفة " الأهرام " في الخامس عشر من نيسان / ابريل 1960 ، ونقلت صحيفة " الوحدة " السورية (16 ـ 4 ـ1960) عن عبد الناصر قوله للباكستانيين " إن قوتكم المعنوية كان لها الأثر الكبير في إزلة الحواجز المصطنعة ، وعلينا تدعيم هذه الروابط الروحية والمعنوية ، ورأيت في زيارتي كيف تنظر باكستان إلى هذه الروابط " ، ومع اقتراب العام 1965 من خاتمته طالب وزير الخارجية الباكستانية ذو الفقار علي بوتو بطرد اسرائيل من الأمم المتحدة على ما أوردت صحيفة " الثورة " السورية في الواحد والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر من العام السابق الذكر .
يروي محمد حسنين هيكل في كتابه " الإنفجار" وقائع لقاء تاريخي بين جمال عبد الناصر وذو الفقار علي بوتو ، هذا بعض منها :
" في شهر تموز / يوليو 1966 تلقى جمال عبد الناصر رسالة عاجلة من ذو الفقار علي بوتو ، ومساء 20 تموز / يوليو استقبله عبد الناصر لمدة ساعة ونصف الساعة ، ولم تطل المجاملات وقال بوتو لعبد الناصر : انت الوحيد الباقي من الزعماء الكبار ، وأرجوك أن تعرف انهم خارجون لإصطيادك ، وقد ذهب الرئيس ـ الباكستاني ـ ايوب خان مرة إلى واشنطن ، وكنتُ معه ، وكان طلبه الرئيسي زيادة المعونة لباكستان ، وكان لديه موعد مع الرئيس جونسون ، وذهب وحده ، وعندما عاد قال لي إنهم قد يفكرون بزيادة المعونة بشرط واحد ، هو التخلص منك ـ من عبد الناصر ـ إني أردت ان أتحدث إليك ، وأن أضع ما لدي تحت علمك تاركا لك الباقي " .
تلك الشفافية المفتوحة ألتي أطلق ذو الفقار علي بوتو العنان لها مع عبد الناصر ، يضاف إليها طموح مفتوح بتحويل باكستان إلى دولة نووية ، وهو القائل في عام 1965 إن الباكستانيين مستعدون لأكل الأعشاب في سبيل إدخال بلادهم إلى النادي النووي ، وهو العامل على استقدام عبد القدير خان إلى باكستان في عام 1975 لتنفيذ ذاك الطموح ، وهذا ما جعل اسرائيل ترفع وتيرة الخطر الإستراتيجي الباكستاني حيالها ، وتحفل سجلات السنوات القليلة الماضية بتبادل " المواقف والرسائل النووية " بين تل أبيب وإسلام آباد ، من بعض تفاصيلها الآتي :
ـ في السادس عشر من كانون الثاني / ديسمبر 2016 ذكرت قناة " فرانس 24 " أن وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف قال " وزير الدفاع الإسرائيلي يهدد بالرد النووي على افتراض قيام باكستان بدور في سوريا ضد تنظيم داعش ، إسرائيل تنسى أن باكستان دولة نووية أيضا ".
ـ في السابع والعشرين من شباط /فبراير 2019 نقلت وكالة " سبوتنيك " الروسية عن قناة "آري نيوز" الباكستانية قولها " إن الهند وإسرائيل كانتا تعدان مع دولة ثالثة لهجوم واسع النطاق على باكستان ، والهند كانت مستعدة لتوجيه ضربة إلى ثمانية مواقع مختلفة في باكستان ، وكانت إسرائيل معنية بضرب المنشأت النووية الباكستانية ".
ـ في الخامس من كانون الثاني / يناير 2022، أشارت قناة " التركية " إلى أن صحيفة (نويه تسورشر تسايتونغ ) السويسرية ، ألمحت إلى احتمال ضلوع الموساد الإسرائيلي في تفجير ثلاث شركات ألمانية وسويسرية ، كانت تدعم عملية تطوير باكستان برنامجها النووي" .
ـ في السادس من كانون الثاني /يناير 2022 بثت قناة " الميادين " المعلومة نفسها الورادة آنفا تحت العنوان التالي " صحيفة سويسرية : الموساد فجّر شركات ألمانية وسويسرية لوقف برنامج باكستان النووي".
إن هذا الإستعراض لقواعد المواجهة الباكستانية ـ الإسرائيلية ، يستدعي سؤالا مفاده عن احتمال الإستثناء ومحاولات التقارب بين الطرفين ، وفي حقيقة الأمر أن الإستثناء المذكور جرت فصوله في عهد الجنرال برويز مشرف بعد إمساكه بزمام الحُكم بإنقلاب عسكري عام 1999 ، ففي الأول من ايلول / سبتمر 2005 التقى وزير الخارجية الباكستانية خورشيد قصوري بنظيره الإسرائيلي سلفان شالوم في مدينة اسطنبول ، وفي السابع عشر من الشهر نفسه قال برويز مشرف لصحيفة " الشرق الأوسط " بعد شيوع خبر مصافحته لرئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون في نيويورك " إن باكستان تسعى الى فتح الحوار مع الدولة العبرية لدفع عملية السلام قدما ، ولا أخاف المعارضة ".
وخلص تحليل ل " التقرير الإستراتيجي الفلسطيني " الصادر في عام 2005 " حول العلاقات الباكستانية ـ الإسرائيلية المستجدة إلى " أن أحدا من حكام باكستان لم يجرؤ على فتح علاقات دبلوماسية مع اسرائيل مثلما فعل برويز مشرف "، وعلقت وكالة الأنباء الألمانية( dpa ) 4- 9 ـ 2005) بالقول " اتخذ الرئيس الباكستاني برويز مشرف الذي يواجه انتقادات شعبية لسياساته المؤيدة لأميركا ، خطوة كبيرة ومثيرة بمد يد الصداقة لإسرائيل ، وحتى الإجتماع بين وزيري الخارجية الباكستانية و الإسرائيلية ، كانت باكستان ترفض بشدة اي اتصال ـ مع اسرائيل ـ منذ قيام البلدين في الأربعينيات ".
و بخروج برويز مشرف عن رأس السلطة ، تراجعت الإندفاعة الباكستانية نحو تل أبيب ، وحين وصل عمران خان إلى رئاسة الوزراء عام 2018عادت المواقف المناوئة لإسرائيل لتتصدر واجهة السياسة الخارجية لباكستان ، ومن ضمنها :
ـ بعد رواج تكهنات حول إمكانية تطبيع العلاقات بين باكستان وإسرائيل ، قال عمران خان (قناة " الجزيرة " 13 ـ 11 ـ2020) إن بلاده تعرضت لضغوط للاعتراف بإسرائيل " بالنسبة لي ، لا احتمال للاعتراف بإسرائيل ما لم تكن هناك تسوية ترضي الفلسطينيين ".
ـ نشر المكتب الإعلامي لعمران خان ( صحيفة " الغد " الأردنية 19 ـ 8 ـ 2020) تغريدة على " تويتر، هذا نصها " موقفنا واضح جدا ، وهو كما قال القائد العظيم محمد علي جناح ، إن باكستان لن تعترف أبدا بإسرائيل حتى يُعطى الفلسطينيون حقهم بتسوية عادلة ".
ـ في إجابة عن سؤال حول قضية كشمير ، قال عمران خان ( قناة " العالم " 12ـ 9 ـ 2021) إن " الهند تحاول تغيير هوية كشمير على غرار ما فعلته اسرائيل في فلسطين " .
ثمة مواقف أخرى لا تقل حدية تجاه اسرائيل ، أطلقها خان في سنوات ترؤوسه للحكومة الباكستانية ، من غير المعروف إذا كانت ستعرف سبيلا إلى خلفه شهباز شريف ، ففي ظل ما يقال عن إعادة صياغة السياسات الدولية بعد الحرب الروسية في اوكرانيا ، تبقى موجبات النظر والتحديق بالسياسة الخارجية الباكستانية ، أمرا مطلوبا لمعرفة حجم التحولات الطارئة في المشهد العام ، على مستوى دول العالم ومن ضمنه دول الإقليم .