كتب الأستاذ حليم خاتون: سويسرا الشرق، بين الواقعية والأسطورة..
مقالات
كتب الأستاذ حليم خاتون: سويسرا الشرق، بين الواقعية والأسطورة..
26 تشرين الأول 2022 , 13:55 م


اللبنانيون منقسمون في كل شيء، حتى في شعار لبنان، سويسرا الشرق...

في لبنان، يفتخر بعض آباؤنا بأن لبنان كان بلدا جميلا اخضر على شاطئ البحر المتوسط، مع جبال تكسو الثلوج القمم فيها لتشكيل لوحة طبيعية غنتها فيروز ووديع الصافي وصباح ونصري وغيرهم من جيل عمالقة فن الضيعة، والصبية الحلوة التي تحمل الجرة وتذهب إلى العين مع رفيقاتها، بانتظار العرسان من شباب الضيعة...

في لبنان أيضاً، لبنانيون قرأوا جزءًا من التاريخ على أنه تاريخ كل لبنان ال١٠٤٥٢ كلم٢، عن عمد أو دون قصد، لا يهم...

هو لبنان الذي أعلن فيه زعيم الفلاحين طانيوس شاهين قيام اول جمهورية في الشرق لم ترى النور، رغم أنها كانت الفكرة الاولى والحل المنطقي لقيام دولة سويسرا الشرق بعد حرب طاحنة شهدها جبل لبنان بين الدروز والمسيحيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر...

هناك طبعا، من لم يؤمن بهذا الكيان، ولم يرد اصلا أن يكون جزءًا منه...

باختصار، شئنا أم أبينا، لبنان هذا هو نوع من الحل الوسط لمسألة الأقليات في هذا الشرق مع كل التناقضات التي يمكن أن تظهر...

لبنان الذي يعيش اليوم صراعا بين توافقية الثنائي الشيعي وبين مشروع القوات اللبنانية في رفض هذا التوافق؛ لبنان هذا يعيش في واقع الأمر حلم تكريس سويسرا الشرق أو العودة إلى التناحر الذي لن ينتهي...

لأن تاريخ لبنان الحديث، تاريخ ملتبس وناقص، لجأت المناهج الدراسية في لبنان الى التركيز على التاريخ القديم ما قبل الميلاد، تاريخ المدن ما قبل نشوء الدول الجامعة...

تاريخ المنطقة لمدة تصل إلى حوالي ألفي سنة، غاب عن كتب التاريخ في المدارس...

في المنهج المدرسي، يبدأ التاريخ مع الإمارة المعنية في جبل لبنان، وإهمال شبه مطلق لبقية التاريخ الذي تم تعويضه بإدخال دراسة تاريخ أوروبا لتغطية هذا النقص...

كما هي مناهج التدريس في لبنان، كان المهم دوما حفظ أكبر كمية من المعلومات ثم كتابتها على أوراق الامتحانات دون فهم أو تحليل...

في تلك المدارس، عرفنا بين الكثير عن معاهدات ويستفاليا التي أنهت حروبا دينية استمرت حوالي المئة عام بشكل متقطع في أوروبا، أدت إلى مقتل ثلث سكان هذه القارة قبل أن تتكون الدول الأوروبية التي نعرفها اليوم وتخرج سويسرا كنتيجة طبيعية لتوافق بين الكاثوليك والبروتستانت من جهة، وبين الاعراق الفرنسية والإيطالية والألمانية من جهة أخرى...

لم يكن الأرثوذكس جزءًا من معادلة ويستفاليا في تلك الايام، وربما لذلك سوف تستمر الحرب في أوكرانيا إلى أن يدخل الأرثوذكس في هذا التوافق حيث حرص الغرب على تفتيت يوغوسلافيا وضرب وتدمير صربيا الأرثوذكسية واستمالة مسلمي أوروبا عامة، والبلقان خاصة من أجل الحرب القادمة ضد الكنيسة الأرثوذكسية والتي تجري اليوم في أوكرانيا...

لماذا تناول معاهدة ويستفاليا؟

ببساطة، كل الحروب، وكل الصراعات تنتهي بواحد من أمرين:

إما انتصار طرف بشكل كامل وإزالة الطرف الآخر من الوجود بالمطلق كما حدث مع حضارات كثيرة اختفت ولم يعد لها من أثر كما سكان اميركا الأصليون...

وإما بالوصول إلى حلول وسط كما حصل بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا عبر معاهدة ويستفاليا...

إذاََ، تعبير لبنان سويسرا الشرق له نفس ابعاد تسوية ويستفاليا التي قامت بين الأوروبيين...

لبنان سويسرا الشرق هو لبنان التسوية التاريخية بين الأقليات الدينية والعرقية التي تواجدت في جبال لبنان العالية نتيجة الصراعات والغزوات المختلفة من جهة أو هربا من الاضطهاد في الجزيرة العربية أو بلاد ما بين النهرين أو بلاد الشام...

وجود لبنان الكيان ليس مرتبطا فقط بوجود المسيحيين العرب كما تروج بعض الأوساط المتعصبة من الكنيسة المارونية تحديداً...

وجود الكيان اللبناني مرتبط بشكل أساسي بتوافق كل تلك الأقليات على صيغة تعايش تكفل العدالة والمساواة بين كل تلك الأقليات...

نظرة سريعة إلى تاريخ لبنان المعاصر في المئة سنة الأخيرة تظهر بوضوح أن وجود هذا الكيان يتهدد في كل مرة تحاول أقلية من الأقليات السيطرة على هذا الكيان...

حتى في عز المارونية السياسية، لم يكن المسيحيون وحدهم من يقرر مصير الكيان...

كان للمسلمين السنة كلمة قوية رأيناها في أكثر من منعطف تاريخي سواء عبر اعتكاف رؤساء الحكومات في بعض الأحيان، أو في فرض امور عجز المسيحيون عن رفضها كما مع شبه الثورة على بشارة الخوري، ثم مع ثورة فعلية سنة ١٩٥٨ ضد سلفه كميل شمعون، ثم مع اتفاق القاهرة في عهد الرئيس شارل الحلو وصولا إلى انفجار الحرب الأهلية سنة ٧٥ بعد أن اختل التوازن الديموغرافي من المنظار الديني...

إذاََ، كلما ابتعد اللبنانيون عن التوافق، وحاول فريق الاستئثار بالسلطة، يقع البلد في أزمة...

المسيحيون الذين كانوا يشكلون أكثر من نصف السكان، لا يزالون يصرون أنهم يشكلون نسبة كبيرة جدا من اللبنانيين عبر اللجوء إلى تعداد اللبنانيين في المهجر، بما في ذلك من لم يعد لبنانيا بعد أكثر من ثلاثة أو أربعة اجيال في الأميركتين خصوصاً...

الاتهامات بين السنّة والشيعة لا تتوقف حول التسنن أو التشيع...

إذا كان الدروز يتمتعون بوزن فاعل في التركيبة اللبنانية، فهذا ناتج بشكل أساسي عن خروج رجالات من وزن كمال جنبلاط أو الأمير مجيد ارسلان من بين صفوفهم، وإن كان اتفاق الطائف قد حرمهم، مثلهم مثل غيرهم من المذاهب الصغيرة، من تبوء مناصب حساسة في الدولة...

هل انتهت دولة سويسرا الشرق في لبنان؟

بل هل كانت هناك دولة سويسرا الشرق في لبنان من الأساس؟

الذي كان موجودا في البلد هو نوع من توافق يشبه توافق ويستفاليا، أنتج ازدهاراً أو ينتج ازدهارا كل فترة لا تلبث أن تنتهي إما بمذابح كما في ١٨٦٠ أو سنة ١٩٧٥، وإما بأزمات ساخنة كما في سنة ١٩٥٨، وإما بانهيار مالي اقتصادي سوف يؤدي إلى حرب ومذابح حتما إذا لم يتم تدارك الأمور...

لم تعد القوات اللبنانية تتحدث عن ١٥٠٠٠ مقاتل...

هناك في القوات من يتحدث عن ٧٥ ألفاً...

هناك في القوات من يريد لبس بدلة نابليون واعتمار قبعته الشهيرة وسط حلم هزيل بالإمارة، وقيادة جيوش من الدروز والسنة والمسيحيين للتصدي للشيعة...

لم تتوقف القوات اللبنانية يوما عن الاحلام الهزيلة منذ أن قرر بشير الجميل توحيد البندقية المسيحية تحت أمرته فقام بإرسال من قتل داني شمعون وطوني فرنجية...

ثم انقلب إيلي حبيقة على ناضر قبل أن ينقلب سمير جعجع عليه ويقوم بتصفية أركانه وتصفية أي صوت داخل الشرقية لا يدين بالولاء الكامل له... إلى أن وقعت حرب توحيد البندقية المسيحية من جديد، ضد ميشال عون...

قد يمون سمير جعجع على نصف المسيحيين، لكنه بالتأكيد لن يمون على ربعهم وسوف يقاتل ربعهم الآخر في حرب ضروس سوف تؤدي إلى خراب أكثر بكثير مما جرى في السابق في الساحة المسيحية...

سمير جعجع قد يمون على بضعة مئات أو في احسن الأحوال بضعة آلاف من السنّة الذي سوف تؤمنهم له السعودية والخليج عبر شراء الذمم ونشر العصبية المذهبية...

لكن قسما كبيرا جدا من السنّة سوف يقف على الحياد في احسن الأحوال...

وقسم ليس قليلا على الإطلاق سوف يقاتل ضد سمير جعجع، قاتل الرئيس السنًي الشهيد رشيد كرامي، والمتآمر رقم واحد ضد الرئيس سعد الحريري...

بالتأكيد، لن يقاتل أغلبية الدروز إلى جانب سمير جعجع لو مهما بلغت أموال السعودية وضغوطها...

بل على العكس تماماً، وليد جنبلاط لن يغادر تحالفا غير معلن مع الرئيس نبيه بري...

أما أنصار الوزير وهاب والمير ارسلان، فسوف يقاتلون بالتأكيد

ضد مغامرة سمير جعجع...

في النهاية مي شدياق وشارل جبور وصقر ونجم وغيرهم لن ينقذوا سمير جعجع من النهاية الحتمية التي اعتاد الوصول إليها من شرق صيدا إلى جبل لبنان...

لكن هذه المرة لن تكون النهاية في رومية...

لا السعودية المهزومة في اليمن سوف تنقذه، ولا الاميركيون سوف يرسلون المارينز لرفده... عصر التدخل الاميركي المباشر انتهى منذ فيتنام ومقر المارينز في بيروت وافغانستان مؤخرا...

سمير جعجع ليس أهم من أوكرانيا...

قد يرسلون له اطنانا من السلاح..

لكن هل نفع كل السلاح الذي تملكه إسرائيل؟

في احسن الأحوال، سوف يتدخل الرئيس بري لدى السيد حسن ليعفو عن سمير جعجع...

لكن هل سوف يقبل المقاتلون الذين لدغوا من جحر العقرب أكثر من مرة... في الجنوب بعد التحرير، في بيروت بعد انتصار ٢٠٠٦، في بيروت والمناطق بعد ٧ أيار...؟

هل سوف يسامحون؟

ماذا بعد هزيمة سمير جعجع الحتمية إذا أصر هذا الرجل على ركوب رأسه؟

سوف يجتمع الجميع لمحاولة الوصول إلى توافق جديد...

بعد ذهاب عون إلى بيته، سوف يدعوا الرئيس بري الى طاولة حوار...

سواء أتى جعجع ام لم يأت...سوف يتم التوافق على رئيس للجمهورية...

إذا أتى جعجع، سوف يحفظ لنفسه مكانا داخل النظام...

إذا لم يأت، سوف ينتهي في رومية كما في المرة السابقة في احسن الأحوال...

لكن هل نكون وصلنا الى حل نهائي للمسألة اللبنانية؟

هناك أمر واحد مهم جداً...

يريدون الحفاظ على اتفاق الطائف؟

حسنا...

لكن صيغة لبنان التوافق يجب أن تتضمن هذه المرة إلغاء شبه تام للطائفية في المرحلة الأولى عبر تطبيق مدنية الدولة وإعادة ربط المواطن اللبناني بالوطن قبل اي شيء آخر...

لقد نجحت ويستفاليا في سويسرا لأنها فرضت علمانية كاملة إلى جانب تنظيم الفوارق العرقية بين الأصول الألمانية والإيطالية والفرنسية...

لكي ينجح مؤتمر الحوار الذي سوف يدعو إليه الرئيس بري، يجب عدم الاكتفاء بانتخاب رئيس للجمهورية مع الحفاظ على نفس النظام لأن ذلك سوف يعني تلقائياً الوقوع في أزمة وجود وأزمة كيان كل بضعة سنوات...

من اجل المحافظة فعلا على هذا الوجود...

من اجل الحفاظ على هذا الكيان الذي شئنا أم أبينا هو يمثل حلا نموذجيا ممكناً لمسألة الأقليات في هذا الشرق، علينا الانطلاق إلى آفاق وحدة فعلية بين كل المكونات الطائفية والعرقية عبر صهر الجميع في مجتمع لا يفرق بين مواطن ومواطن آخر على اي أساس ديني أو مذهبي أو عرقي أو فكري، وهذا لا يمكن الوصول إليه إلا عبر قيام جمهورية علمانية تفصل الدين عن الدولة بشكل كامل وتعمل على إزالة الغبن اللاحق بالطوائف الصغرى عبر فرض تنظيم اجتماعي خلاق يسمح فعلا بأن يكون هذا البلد سويسرا الشرق ليس فقط بجمال الطبيعة، بل أيضاً في السمو الإنساني والعمل على فرض مجموعة من القيم التي تعود إلى جوهر الرسالات وليس إلى القشور فيها...

لكن هل هذا يكفي؟

هذه تكون الخطوة الأولى بالتأكيد في طريق بناء سلطة غير فاسدة لأن لا اتباع زبائنيين لها...

حليم خاتون